فاجأني اليوم صديقي باتصال هاتفي وجه لي من خلاله- بعد قليل من الوقت- سؤالاً حول المبلغ الذي تدفعه الجامعه لقاء استئجار مجلس أمناء جامعة الأزهر شققاً له خارج الحرم الجامعي. بعد أن استوقفت صديقي، متسائلاً عن سبب سؤاله الغريب، ومصراً على معرفة الدافع وراء إصراره على معرفة الإجابة عن سؤاله، فقد كان لي أن أعلم أن مبعث السؤال كان ذلك الحوار المتلفز على موقع اليوتيوب الإلكتروني، والذي أجرته معي مؤسسة من مؤسسات الصحافة والشفافية المعنية بحرية الرأي وحرية التعبير عنه.
بعد حوار طال بيني وبين صديقي، فهمت ما أسعدني وما أدهشني في آن معاً: كان مبعث الإسعاد والإدهاش في فهمي أن رئيس مجلس الأمناء- في أحاديثه مع الناس وفي تعليقه الغاضب والنافر والمشمئز على الحوار المتلفز على اليوتيوب- قد ترك كل مثلبة وكل مفسدة ليتعلق برقم قوامه خمسون ألف دولار (أو أقل أو أكثر!) لقاء استئجار شقق لمجلس الأمناء خارج الجامعة، متناسياً أن الفساد لا يحده ولا يحدده رقم صغير أو متوسط أو كبير، ذلك أن الأصل في الفساد هو أن الفساد فساد في نوعه لا في درجته... الفساد هو الفساد في نوعه لا في رقمه، ارتفاعاً أو انخفاضاً، بل إن الفساد إن كان في بعض الأحيان مرتبطاً برقم متدنٍ، فربما كان ذلك أعظم الفساد، تأسيساً على قاعدة أن من يفسده قليلٌ إنما بالكثير يسهل إفساده ويزيد.
لا فرق- البتة بين أجرة سنوية تبلغ خمسين ألفاً أو أربعين أو عشرة أو ثلاثين، ذلك أن معيار الفساد أو محدده، في السياق الذي نحن فيه، هو المبدأ والأصول: فإن كانت الجامعة تعاني عسراً مالياً يحول دون رغبتها في الإصلاح والترميم والتطوير كما يدعي أربابها، طبقاً لسؤال وجه إليَّ في الحوار المتلفز على اليوتيوب، فإن من الطبيعي أن تكون إجابتي رداً على من يراوغ فيقول كلام حق يراد به باطل. هب أن قيمة الإيجارة خمسة آلاف دولار فقط وليس خمسين ألف دولار، فالشاهد على الصواب وعلى الخطأ في هذا الأمر ليس القيمة، وإنما الضرورة: ما هي الضرورة التي تدفع الجامعة لاستئجار مكاتب لمجلس الأمناء خارج حرمها لقاء مبلغ مهما تدنى، حتى ولو كان خمسة آلاف دولار؟! وما هي الضرورة التي تدفع مجلس الأمناء إلى حجز مكاتب له في الجامعة إضافة إلى مكاتبه المستأجرة خارجها؟! إنها أسئلة تستند إلى المنطق والموضوعية على نحو عام، فيما تنطلق من الحال الذي تعيشه جامعة الأزهر والذي دفع أربابها إلى التذرع إما بتقصيرها أو انعدام قدرتها على إنهاء المظاهر المستبشعة فيها. إذا كان تذرعهم صحيحاً وصادقاً ومطابقاً لواقع الحال، فلمَ لا يكون التقشف سياسة لمجلس الأمناء ومنهجاً ليس فقط على شيء دون شيء، وإنما على كل شيء؟! لماذا يفرض مجلس الأمناء سياسةً يصفها بالتقشف، فيما يفرض أن يكون قوام الشعبة 60 طالباً وأكثر، تذرعاً بالحالة المالية المتردية للجامعة، فيما ينفق أموالاً في مسارب لا تنبغي، البتة، وأقرب مثال على ما أقول: لماذا ينفق مجلس الأمناء مبلغاً أفترض أنه خمسة آلاف دولار فقط لقاء إيجار لمكاتبه خارج الجامعة في وقت وفرت فيه الجامعة وما تزال توفر لمجلس الأمناء حجراته ومكاتبه؟! ولماذا يحتجز مجلس الأمناء حجرات ومكاتب له في داخل الجامعة في الوقت الذي يتمتع فيه بشقق ومكاتب خارج الجامعة ويدفع أجراً لها مبالغ كان في مكنته أن يستخدمها في احتياجات أخرى للجامعة؟! أليس الحريص هو من يفعل هذا؟! أين الحرص المدعى به في وقت تتعالى فيه الشكاوى ويتصاعد فيه التباكي على الأوضاع المالية للجامعة؟!
أليس غريباً أن يتباكى على الجامعة من يسيء إليها ومن يهدر أموالها ومن يحط من شأن طلبتها وعامليها؟! أليس غريباً أن يتعلق رئيس مجلس الأمناء بأمر شكلي هامشي لا قيمة له سواء كانت قيمة الإيجار خمسة أو خمسين، متجاوزاًً في ذلك عن المبادئ والأسس، ومتجاوزاً في الوقت نفسه، عن أمور هي الأكثر أهمية وهي الأكثر إلحاحاً مثل: (1) القذارات والحقارات والسفاهات المكتوبة على جدران قاعات الدرس وفي الممرات وفي الحمامات (2) الضجيج المنبعث من أعمال البناء وطرق المرزبات في وقت الدوام والمحاضرات (3) خراب الأبواب والشبابيك التي لا تغلق وإن أغلقت فإنها لا تقتح (4) التعليقات المتعددة والمفاجئة للدوام الأكاديمي (5) سرقات المحروقات والسيفونات والكوابل والكمبيوترات (6) انعدام قدرة أرباب الجامعة على التخطيط (7) قمع حرية الرأي وحرية التعبير عنه.
وبعد: أفليس النظر إلى هذه الأمور وأخرى من نوعها وعلى شاكلتها، هو الأكثر حسماً وإظهاراً إن كانت الغيرة على الجامعة غيرة حقيقية صادقة وإن كان السعي إلى إصلاحها وتطويرها ليس إلا سعي الجادين والغيارى من المخلصين والمنتمين؟!
أما آخر الكلام، فإنني أدعوك، اللهم، أن تبعد الصمم والعمى عن صديقي، وأن تجعله، اللهم، ممن يبصرون إن هم أبصروا، وممن يسمعون إن هم سمعوا. آمين آمين، يا رب العالمين.
بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جامعة الأزهر بغزة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت