ما أروعك يا مصرُ! وأنت تخرجين إلى صناديق الاقتراع، ما أروعك! وأنت تضعين حجر الأساس للديمقراطية الصحيحة في الشرق كله، ما أروعك يا مصر! وأنت تضمين أبناءك في طوابير الصباح، يزجون عتمة المستبدين بالرأي، أولئك الذين حرضوا على القتل والفتنة والانشقاق، وحرضوا على إعاقة تنمية مصر، وثنيها عن تطوير حياتها السياسية.
بل ما أروعك يا مصر ! وأبناؤك يتقاتلون في الشوارع، نعم، ما أروع مصر وهي تحمل العصى والحجر، وتتقاتل في الحارات، ليطرد هذا ذاك، ويتصارع أولئك مع هؤلاء، ما أروع مصر التي تعاود صياغة مصر من جديد، مصر الواعية اليقظة المنتبهة لنفسها، مصر التي لا تعيش الحدث، وإنما مصر التي تصنع الحدث، وتأتلق بالندية والموجهات.
لقد أفاقت مصر من غفوتها، ورجعت لكل المصريين، وصار مستقبلها مدار نقاشهم واهتمامهم، ومصدر تفكيرهم وانطلاقهم، إنها معشوقة المصريين، وهذا خير وبركة على الجميع، بما فيهم أولئك الذين يتقاتلون على الدستور، ويتنافسون على الصلاحيات، وهم الذين كانوا حتى الأمس القريب يغرقون في الحزن دون أن يحركوا ساكناً، وهم الذين رأوا رجال النظام السابق يسحقون مصر تحت أقدامهم، ولم ينفعلوا، ولم يغضبوا لعشرات السنين، إن هؤلاء المصرين الذين يتقاتلون لخلافات سياسية هم المصريون أنفسهم الذين كانت تسيل دماؤهم على نتائج مباراة كرة قدم، وكانوا ينشغلون بأسماء اللاعبين، وكانوا يتابعون أفلام الفنانين والفنانات، ويسهرون حتى الفجر لسماع أطرب النغمات، ولا يفيقون من غفوتهم إلا في السجون وقد فرقتهم الهراوات.
فما أروعك يا مصر، وأنت تراجعين مواد الدستور، وتصوتين بنعم أو لا، وبغض النظر عن نتائج التصويت، والجهة التي ستفوز، يكفي مصر فخراً أنها تقرر مصيرها، وأنها تعيش يومها بحلاوته ومرارته، وأنها تصحو من كوابيس الموالاة بلا تفكير، وقيود "أمرك يا فندم، وسمعاً وطاعة يا باشا"، مصر اليوم هي الباشا الذي يسعى الجميع لكسب وده وتعاطفه ورضاه، فما أروع مصر وهي تعود للمصرين، وما أروع المصريون وهم يتشاجرون في الشوارع من أجل مصر، ليطرد الطيب الخبيث، وينفيه من الأرض.
إنها مصر التي تجعل من الرئيس خادماً فعلياً للشعب، وتجعل البرلمان يتودد للناس، وينتظر الحساب، وتجعل المسئول يرتجف من السائل، فما أروع مصر وهي تتنافس على الخير، وتتزاحم في الانتماء، والولاء، والعطاء، وتثبت وجودها أمام صناديق الاقتراع.
لقد عاشت كل شعوب الأرض هذه الحالة من الصراع الداخلي، وقد مرت كل الثورات بالتجربة نفسها، وكانت النهايات هي انتصار الحق على الباطل، ورسوخ مبدأ الصدق وتحلل تجمعات النفاق والخذلان، لقد عاشت غزة فترة من المشاجرات الداخلية، والانفلات الأمني الذي لا يقل بشاعة عما شهدته مصر، لتسبق غزة الجميع في تجربتها، حين حسمت أمرها، وانتصرت على ما توسوس فيه النفس من شرور قبل أن تنتصر على عدوها الصهيوني الشرير.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت