رأي عام على المقاس
قديماً كان الحاكم يرسل العسس لينخرطوا بين الناس ويعودوا إليه بما يتحدث به العامة، ومهمة العسس لا تقتصر على نقل ما يتحدث به الناس إلى ولي نعمتهم، بل قد يضيق صدر الحاكم بما يصل إليه من أقوال لا تطرب إليها أذناه، فيأمر بملاحقة من تجرأ على مقامه السامي بنقد أو حتى بنصيحة، والخليفة عمر بن الخطاب كان يخشى ألا تحدثه بطانته بما يجول بخاطر العامة، فكان يحرص أن يسير متخفياً بين الناس يستمع لما تنبري به ألسنتهم عن شؤون الحياة والحكم.
ومع التطور المجتمعي وتشعب العلاقة بين الحاكم والمحكوم ضمن أنظمة الحكم المختلفة، باتت الحكومات تعتمد على أدوات علمية لقياس الرأي العام ضمن مكونات العمل الديمقراطي، ومع التطور العلمي تعددت أدوات قياس الرأي العام، ولكن تبقى استطلاعات الرأي هي الأكثر دقة وانتشاراً في عالمنا المعاصر، وبمقدورها أن ترسم محددات واضحة للركائز الأساسية التي يبنى عليها الرأي العام، وعادة ما تلجأ أنظمة الحكم لتمحيص مخرجاتها والاعتماد عليها في تطوير وتعديل أدائها، الدول صاحبة الباع الطويل في الممارسة الديمقراطية لا تقصر استطلاعات الرأي عندها حول قياس مدى رضا المواطن عن أداء الحكومة أو الحزب الحاكم، بل تذهب بها إلى شتى المواضيع التي تستحوذ على اهتمام المواطن، على خلاف دول العالم النامي التي كل ما يعنيها من استطلاعات الرأي معرفة مدى جماهيرية الحزب أو الحكومة لدى المواطنين.
في الدول المستقرة التي تنعم بحياة ديمقراطية نسبة الخطأ في استطلاعات الرأي عادة لا تتجاوز 1%، وبالتالي هي محل ثقة من قبل الجميع ولا تخضع للتشكيك في مصداقيتها، وبخاصة أنها لا تقع ضمن استطلاعات الرأي الموجهة التي تعج بها ساحتنا العربية، لدينا الأمر جل مختلف، فهي من جهة في معظمها من فصيلة استطلاعات الرأي المدفوعة الثمن، ومن جهة أخرى من الصعوبة بمكان قياس مزاجية المواطن الفلسطيني المتقلبة بفعل الأحداث اليومية المتلاحقة المحيطة به، وعادة ما تتشكل طبقاً للمؤثرات العاطفية التي تولد من رحم الأحداث، بعيداً عن لغة العقل والمنطق التي عادة إن أحدثت تغييراً في الرأي العام يكون بشكل تدريجي يمكن متابعته واستيعابه.
استطلاعات الرأي لدينا سجلت وما زالت تسجل إخفاقات كبيرة، تصل لمستوى السقوط الدراماتيكي، ولا يعني ذلك غياب الطرق العلمية الممنهجة المستخدمة فيها،
بل الإخفاق مرده الحالة الغير مستقرة للرأي العام، فحادثة صغيرة كافية لأن تتحول لإعصار يطيح بالرأي العام الذي سبقها ويتفتق عنها رأي عام مخالف لما كان، سجلت استطلاعات الرأي فشلاً في الانتخابات التشريعية السابقة، حتى تلك التي اقتربت من النتائج ظلت بعيداً عنها، والفشل تلاحق في مناسبات عدة كان آخرها الانتخابات البلدية في الضفة الغربية، لكن المهم لدينا في استطلاعات الرأي يقتصر على مخرجاتها المتعلقة بالتأييد الفصائلي والشخصي، دون أن تلتفت الفصائل الفلسطينية لكيفية البناء على ما جاء فيها من محددات تتعلق باهتمامات المواطن وأولوياته.
المخجل لدينا ما يتعلق بقياس الرأي العام عبر شبكة الإنترنت أو الفضائيات، ففي الأولى يكفي أن يجلس أحد الموظفين لبضع دقائق أمام الحاسوب ليعطي نتائج تشفي قلوب القائمين عليه، أما الفضائيات فاستطلاعات الرأي التي تجريها لا تخرج البتة عن النسبة التي حددتها مسبقاً إدارة القناة، حالها كحال ذلك الزعيم العربي الذي استقدم كبرى الشركات الهندسية لتشييد برلمان لممثلي الشعب طبقاً لأحدث المواصفات بما فيها نظام الاقتراع المحوسب، وطالبهم بأن يكون بجانب غرف التحكم بالصوت والإنارة غرفة للتحكم بأصوات النواب، ببساطة ليس لدينا قياس للرأي العام بقدر ما لدينا رأي عام على المقاس.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت