فى هذه الأيام يترقب كافة أبناء حركة فتح فى قطاع غزة رد حكومة حماس على طلب الحركة بالاحتفال بانطلاقة حركة التحرير الوطنى الفلسطيني فتح ... وقد تسربت الكثير من الأحاديث التى تجمع غالبيتها على موافقة حكومة حماس بغزة على الاحتفال ولا توافق على المكان .. ولربما يفسرها البعض بأنها رفض ولكن بطريقة أخرى خجلاً من عناصرها بالضفة الغربية الذين احتفلوا بانطلاقتهم وقد اختاروا الزمان والمكان بما يتناسب معهم ؛ ولم يماطلهم أحد ؛ ولم يضع أحد هناك عليهم أية شروط ... ولربما لوعى ومعرفة الجميع بجماهير حركة فتح فى غزة والمتعطشة للاحتفال بانطلاقتها التى حرمت منها منذ الانقسام السياسى ... تلك الجماهير التى توسمت خيراً ببوادر المصالحة ورغبة الطرفين الجادة بتنفيذها ، وتنتظر بفارغ الصبر تلك المناسبة للتعبير عن انتمائها وحبها لحركتها .
الجميع شاهد ما حدث بالضفة الغربية ... وما أبدته حركة فتح من حسن نوايا بالمصالحة ، ولعله بالمقابل ما ينتظره شعبنا هو مبادرة حكومة حماس بالموافقة على إقامة المهرجان الفتحاوى فى غزة بالمكان الذى ترغبه فتح كبادرة حسن نوايا أيضاً ... وتمهيد للبدء الفعلى فى تنفيذ المصالحة على الأرض بدلاً من التصريحات والشعارات التى لا تغنى ولا تسمن من جوع .
المحللون والمجتهدون بهذه القضية كثر وتختلف الآراء بين هذا وذلك .. فالمشكلة ليست بقبول حكومة حماس لإقامة المهرجان أو تخوفها كما يدعى البعض من انفلات الجماهير الفتحاوية وإثارة الشغب والفوضى فى غزة .. فأبناء حركة فتح أوعى وأنضج من تلك التصرفات الصبيانية ؛ وحرصهم وإيمانهم بحرمة الدم الفلسطيني يمنعهم من تلك التصرفات ، وليس جبناً أو خوفا كما يعتقد البعض .
الإشكالية الأساس هى عدم المقدرة على قبول الآخر .. كفكر ونهج وإستراتيجية .. ونحن هنا لا نتحدث عن طرف من كوكب آخر أو يدافع عن مشروع وطنى آخر ... الحديث عن طرف فلسطيني .. عامل وموظف ومثقف ومواطن ومناضل ومقاوم من كتائب شهداء الأقصى جنبا إلى جنب مع ابن القسام والسرايا والشعبية وكافة الفصائل الفلسطينية ... أبناء شعب واحد .. يجمعهم دين ولغة ودم واحد .. أصحاب مشروع وعدو واحد .. ربما تختلف الايديلوجيا والثقافة الحزبية ولكن الجميع يجتمع على فلسطين واحدة ... هنا يدور الحديث عن قبول الفلسطيني للفلسطيني وتقبله للتعايش معه كما هو بفكره وثقافته وأحلامه وتطلعاته ورؤيته للقضية الفلسطينية ... تلك الفلسطيني من يوافقك فى العقيدة ويشاركك فى الأهداف الوطنية ، ويبذل كل جهده مثلك لإقامة الدولة الفلسطينية ، وقد تختلف معه فى طريقة الأداء ولكن الغاية بإقامة دولة فلسطينية واحدة .
فلا يحق لأى أحد مطالبة الجميع الانطواء تحت عباءته وأن يدور فى فلك معتقداته السياسية ، وإن خالفوه الرأى يقوم بتكفيرهم وتخوينهم واتهامهم بالتنازل عن الثوابت والوطن ، ويلغى كل تاريخهم النضالى وجهودهم وإسهاماتهم فى القضية الفلسطينية الواضحة كوضوح الشمس ... لا أحد يملك تصريح التنازل عن الثوابت الفلسطينية والكل الفلسطيني مجمع عليها بكافة أطيافه السياسية .
المصالحة أصبحت حلم يسعى الجميع لتحقيقه .. ولكن لتحقيق المصالحة على الأرض يجب التعاطى مع الآخر ... ثقافة قبول الآخر بحاجة لتعلم وتعميم وتوعية من كافة الأطراف السياسية ومؤسسات المجتمع المدنى ... قبل التصالح يجب القبول .. فالتصالح على مضدد يولد النفور وعدم الألفة وعودة الخلافات على ما هى عليه .
جميعنا بحاجة لإعادة ترتيب أوراقنا ... وثقافة قبول الآخر هى ثقافة إنسانية ولا تتحقق إلا بالحوار والتواصل والمشاركة السياسية .. ولا يكفى أن ندعو للحوار والمصالحة دون اتخاذ خطوات عملية لما اتفق عليه .. وهنا وجب التأكيد على أن قبول الآخر ليس بالضرورة الإيمان بمعتقداته وفكره وأدائه السياسى .. إنما هو إقرار بوجوده وقبول اختلافه .. التسامح والاعتراف بالآخر وعدم التفكير بشطبه والقضاء عليه واحترام الاختلاف فى وجهات النظر ، وترسيخ وتعميم تلك الثقافة فى التنظيمات هى مقدمة أساسية للبدء بالحديث عن المصالحة .. فالمصالحة ليست لقاءات بين قادة الفصائل المتنازعة بقدر المقدرة على تطبيقها على الأرض ، ومن يدعى حرصه على المصلحة الوطنية ولا يقدم مصالحه الخاصة على المصلحة العامة ... ليمارس تلك الثقافة ويدعو إليها .
ففلسطين أكبر من الجميع ... فالكل زائل وفلسطين هى الباقية .
.د.عبير عبد الرحمن ثابت
أستاذة العلوم السياسية في جامعة الازهر
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت