بقعة زيت
مطلوب أن يحافظ المرء على مساحة واسعة من التفاؤل، حتى في أكثر الظروف صعوبة وتعقيداً، فمن رحمه يولد وينمو الأمل الذي يبقي فينا الإحساس بالقدرة على التغيير نحو الأفضل، والتفاؤل يتغلغل داخل النفس البشرية نتاج تشابك مجموعة من العوامل الموضوعية، تبدأ بقراءة دقيقة للواقع وتحديد نقاط القوة والضعف فيه، وبناءاً عليه يتم تحديد الوسائل التي يمكن من خلالها إحداث التغيير، تغيير وإن كان صغيراً يقود طبقاً للمنهج التراكمي لإحداث التطور المطلوب نحو الأفضل، وإن كان التفاؤل سنة محمودة تعزز إيماننا بقدراتنا الذاتية، فمن المفيد أن نميز بين المتفائل والعبيط، حيث التداخل بينهما شكلاً يمكن أن ينعكس على المضمون، فيتحول معه المتفائل إلى عبيط في نظر الآخرين، فيما يحاول هو أن يقنع ذاته بأن الالتباس الواقع هو نتاج مرض قصر النظر الذي يعاني منه الآخرون.
لعل الخطوة الأولى التي تمكنا من زرع بذور التفاؤل هي أن نقف على حقيقة الواقع بكل تجرد، وأي محاولة لتجميله لا تخدم الانبعاث من ركامه بقدر ما تدفعنا للانكماش بين جزيئاته، والتي تفاقم مستقبلاً من صعوبة معالجة تداعياتها.
في المقابل التشاؤم الذي يطغى على البعض منا، لا يحق لنا معالجته بإقحام الابتسامة على محياهم، وليس من المنطق في شيء الطلب منهم مجاراة الخداع البصري المحيط بهم، وإن فعلوا ذلك لا يختفي التشاؤم من داخل وجدانهم، ولكن ذلك يتكفل بنقلهم إلى عالم النفاق، الذي تختفي الحقيقة بين دهاليزه وتطفو على سطحه بقعة زيت تفصلنا عن الواقع، ولا تجعل سبيلاً للحياة عند مساحتها الممتدة.
وبين هذا وذاك يقبع المتشائل الذي استحضره الكاتب الكبير أميل حبيبي، حيث يقيم في المساحة الضيقة بينهما، لكنه يحافظ على خصوصيته رغم الغموض الذي يكتنفها، وهو بالمناسبة لا ينفع ولا يضر، اللهم إلا فيما ينتج عن قراءة الغير الخاطئة لمكونات فكره وفلسفته في الحياة.
فيما يجد البعض، ممن يجيد النظر تحت قدميه، في القاعدة التي تحكم عمل بندول الساعة ملاذاً لتركيب شخصيته تبعاً لمتطلبات الأجواء المحيطة به، أعتقد أن الانعكاس السلبي المتعلق بدرجات التشاؤم المتفاوتة يبقى أقل تأثيراً من السلبيات الناجمة عمن يحاول أن يجمل الواقع بالهروب إلى الخيال مستعيناً بمساحة من التفاؤل لا يوفر الحد الأدنى المطلوب له، بقدر ما نحن بحاجة لأن نغرس في نفوسنا التفاؤل المبني على معطيات من الواقع حتى وإن كانت ثانوية بقدر ما نحن بحاجة لأن ننأى بأنفسنا بعيداً عن الخداع حتى وإن حاولنا أن نصقله بمفاهيم التفاؤل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت