قد يفهم المرء من واقع التجارب الحية ان لكل موقف وطني اصيل مدروس بعناية فائقة، ثمن باهض ينبغي القبول به مهما كانت العواقب، هذه هي القاعدة الثابتة للصراع بين الأضداد، وبالتالي ما اقدمت عليه حكومة الاحتلال المتطرفة من قرصنة للاموال الفلسطينية يندرج ضمن سياق العقوبات الجماعية، فور التصويت الدولي الساحق على ترقية مكانة فلسطين إلى دولة غير عضو بالهيئة الأممية لم يشكّل مفاجئةً تذكر، حيث مارست شتّى انواع هستيريا البلطجة الشوارعية على لسان قادتها بما في ذلك التهديد المباشر بالويل والثبور وعظائم الامور، بعد ان فشلت ضغوطات الادارة الامريكية إقناع القيادة الفلسطينية بالتخلي عن مسعاها مقابل عملية سياسية نشيطة إثر تشكيل اركان الادارة الجديدة ، ثم دفعت بعض حلفائها الاوروبيين للمساومة الرخيصة لاجل تفريغ مشروع القرار الفلسطيني من محتواه العملي خاصة ما يتعلق بالانضمام للوكالات الدولية ذات العلاقة بجرائم الحرب الدولية من خلال تعهد فلسطيني يقضي عدم استثمار الوضع الجديد لمحاكمة قادة وجنرالات الاحتلال المسؤولين مسؤوليةً كاملةً عن استمرار العدوان ضد الشعب الفلسطيني وممتلكاته في مقدمتها مصادرة الاراضي ومواصلة بناء الاف الوحدات الاستعمارية الاستيطانية وتغيير الملامح الجغرافية والديمغرافية التي يصنّفها القانون الدولي جرائم حرب بامتياز تستوجب الملاحقة الجنائيــة الأمر الذي تمّ رفضه جملة وتفصيلا، غير ان المفاجئ الى حد ما تهاوي الموقف العربي الرسمي الذي كان على درايةٍ تامةٍ وبالتنسيق الكامل للتحرك السياسي الفلسطيني باتجاه المنظمة الدولية، ومع ذلك سجل وزراء الخارجية العرب غياباً جماعياً ملفتاً لحضور جلسة التصويت على القرار الفلسطيني خشية غضب السيد الأمريكي، بينما سدّ وزير الخارجية التركي داوو اوغلو الفراغ العربي المحزن، لم يتوقف الامر عن حدود الغياب بل تعدّى ذلك إلى عدم الوفاء بالإلتزامات التي قررها مؤتمر القمة العربي في بغداد، ووزراء الخارجية ،ولجنة المتابعة العربية توفير شبكة الامان المالية مقدارها مائة مليون دولار امريكي شهرياً في حال اقدمت سلطات الاحتلال اتخاذ اجراءاتٍ عقابية متوقعّة الحدوث ضد السلطة الفلسطينية الأمر الذي ادّى إلى المساس بحياة الشريحة الأكبر للمجتمع الفلسطيني وحرمانه من مصدر الدخل الوحيد لمواجهة الأعباء المعيشية للشهر الثاني على التوالي، باستثناء دولة الجزائر الشقيقة المشهود لها مواقفها القومية الراسخة تجاه القضية الفلسطينية، لقد ظهرت مؤشرات ايجابية اثر اعلان مؤسسة الجامعة العربية تشكيل وفد كبير يضمّ وزراء الخارجية العرب بزيارة للاراضي الفلسطينية لتقديم التهنئة بمناسبة رفع مكانة فلسطين إلى دولة غير عضو وربما التعويض عن خلل عدم الحضور في الامم المتحدة، كما يُشكّل مناسبة للإطلاع على المعاناة الفلسطينية جراء واقع الاحتلال، إلا ان الزيارة أُلغيَت في اللحظة الأخيرة دون تفسير واضح يعلّل الأسباب الحقيقية، واقتصرت على حضور الامين العام للجامعة يرافقه وزير الخارجية المصري لم يخرج طابعها البروتوكولي عن إطار المجاملة وحفظ ماءَ الوجه، و لدى سؤال الامين العام للجامعة عن سبب تأخر العرب تقديم شبكة الأمان لم يجد اجابة شافية سوى التعبير عن الأســف مقرونة بالامنيات الكثيرة، كان يمكن استيعاب تأجيل الزيارة حتى على مضض لأسباب فنية أو الأعداد الجيد لها كما قيل، لولا تزامنها مع الغاء زيارة الامير القطري الذي حدد موعدها بنفسه وبناء على طلبه اسوةً بالزيارة التي قام بها إلى قطاع غزة قبيل العدوان الأخير واثارت الكثير من الجدل والتأويل أهمها تجاوز الأصول المتعارف عليها لترتيب الزيارة من الباب الواسع لا بالطرق الألتفافية ، أما التبرير الوحيد الذي جاء به وزير الشؤون الخارجية الفلسطيني يبدو انه رسم علامات استفهام كبرى حول الجدوى من عدم ذكر الاسباب الحقيقية التي جعلت الأمير يطلب الزيارة بنفسه ثم يلغيها دون ان يكلّف نفسه عناء التبرير كما تقتضي الأعراف، مع العلم أن زيارته المريبة إلى قطاع غزة كانت تحتّم موافقة امريكية اسرائيلية مسبقة ،لذلك من السذاجة القول ان الأمير الذي يلعب دورا خطيرا في القضايا العربية قد تعرض لضغوطات اللحظة الاخيرة، الا اذا كان وراء الأكمّة ما وراءها في ظل المحاولات الكثيرة للنيل من هيبة السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية والتقليل من شأنها وخنق الأنجاز الفلسطيني وبالتالي تركيع الشعب الفلسطيني للقبول بالإملاءات الاحتلالية الرامية إلى شطب الحقوق الفلسطينية في اطار عملية واسعــة ترتبط مباشــرة بالمتغيرات الجارية في المنطقة وصعود بيادق شـطرنجية غارقة حتى أذنيها بتنفيذ مخططات تلبّي مصالح تحالف شيطاني يعيد رسم المنطقة من جديد، ركائزها اضعاف الدولة الوطنيـة واثارة النعرات المذهبيـة والطائفية وخلق كيانات هزيلة تتصارع فيما بينها مما يدعوها طلب الحماية الأجنبية مقابل استنزاف الثروات العربية التي تذهب الى خزائن البنوك الامريكية والغربية لانتشالها من الأزمات الأقتصادية المتفاقمة، يأتي ذلك بعد انحسار المدّ القومي وفشــل الأحزاب والقوى الديمقراطية والمدنية في قيادة دفّــة السفينة نحو شاطيء الأمان .ان الرهان على وعود النظام الرسمي العربي تجاه تعزيز صمود الشعب الفلسطيني في مواجهــة عدوان الأحتلال الذي يسابق الزمن للسيطرة على ماتبقى من أراض ومقدسات بما لايدع امكانية تجســيد الدولة الفلسطينية واقعيا ، ماهو الا أضغاث أحلام نتيجة القرارات الكثيرة التي تبخّرت ادراج الرياح قبل أن يجّـف الحبر الذي صاغها ، ويكفي التذكير بقرار دعم القدس لمواجهة عملية التهويد وترسيخ صمود المواطن المقدسي بمبلغ خمسمائة مليون دولار أمريكي التي لم يحصل منها حتى اليوم مايزيد عن أربع وثلاثين مليون دولار منذ انتهاء مؤتمر القمة العربي قبل ثلاث أعوام في ليبيا بسبب الأذعان لضغوطات الادارة الأمريكية ، وبالتالي لا بد من اعادة قراءة الواقع السياسي العربي وتســمية الأشياء بمسمايتها وفق ســلوك كل دولة تجاه القضية الفلسطينية ، اذ لم يعد مقبولا تشكيل غطاء يبرّر افعال أولئك العابثين بالمصير الفلسطيني خدمة للمشاريع الأمريكية الصهيونية في المنطقة ، كمالايليق بأعظم قضية عادلة عرفها التاريخ المعاصر قدّم شعبها خيرة ابناءه شهداء، جرحى، أسرى،من أجل حريته واستعادة حقوقه الثابتة خلال مسيرة كفاحه الوطني الطويل ، أن تتوســل أو تستجدي تأمين مقومات استمرارها بأي ثمن كان . يخطيء من يعتقد أن صيرورة الشعب الفلسطيني المشهود له قوة الجلد وصلابة الموقف والصمود يمكن أن يقايض حقوقة المشروعة وتاريخه النضالي الطويل مقابل أموال الدنيا كلها، لذلك ينبغي اسقاط هذا الرهان البائس من حسابات اصحابه. لعّل واقع الحصار الذي يفرضه مثلث السـوء يشكلّ صحوة حقيقية تدفع بكافة القوى الفلسطينية انهاء حالة الأنقسام المدمّر الذي ألحق أفدح الأضرار بالمشروع الوطني ، وقد حان وقت الأستجابة للارادة الشعبية الموحّدة حيث تجلّت بأبهى صورها في مواجهة العدوان على قطاع غزة ، والانجاز الفلسطيني الهام في الامم المتحدة ، والتي زحفت عن بكرة ابيها للمشاركة بأحياء مناسبة انطلاقة الثورة الفلسطينية كي تسمع صوتها الهادر بالقول كفى للأنقسام ... نعم للوحدة الوطنية الحقيقية، فهل وصلت الرســــالة ؟ .........
عضو المكتب السياسي لجبهة التحرير الفلسطينية
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت