بانتهاء احتفال حركة فتح بانطلاقتها، وضعت القوى الوطنية والأحزاب الفلسطينية الرئيسية الأربعة حدّ لعملية التبارز والتأطير والتسارع في الحشد الجماهيري والبذخ المالي، والخلاصة كلّ حزب بما فعل فرح، فحركة الجهاد الإسلامي بادئة الاحتفالات فرحت بما حَشدت وأنجزت وبكل تأكيد غير نادمة على ما صرفت من أموال، وما حشدت من أعداد، أما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لم تحتفل هذا العام بالشكل التقليدي بل اقتصرت احتفالاتها على مسيرة جماهيرية، واحتفالات مناطقية كان أكثر وأبهى ما بها المناضلة ليلى خالد، ولذلك فهي قننت بعضًا من حجم البذخ المالي، وربما هو من باب الضائقة المالية التي تعاني منها الجبهة الشعبية وليس من باب أخر.
أما حركة حماس التي كانت منتشية بالنصر في المعركة الأخيرة، وقصفت القدس وتل أبيب، وأعادت أو استقبلت رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل في غزة استقبال الفاتحين المنتصرين، ونائبه في غزة، حاولت أن تجعل من انطلاقتها رمزية لوجودها وقوتها الجماهيرية كقوة أولى، وتسويق رئيس مكتبها السياسي للمرحلة القادمة، وتأكيد على المشروع المنفذ في المنطقة وعنوانه الأبرز الإسلام السياسي، وبكل تأكيد انتشت حماس وشعرت بالزهاء ممّا حققته في انطلاقتها، ولو كان بالإمكان لفعلت أكثر ممّا كان، ثم كان الختام مسك بانطلاقة حركة فتح الممنوعة منذ خمس سنوات من الاحتفال، وبعد عملية مخاض عسيرة وشد وجذب مع حكومة غزة المقالة على مكان الاحتفال استطاعت أن تعبر فتح وجماهير غزة عن حرمان السنوات السالفة بحشود بالنسبة لي غير مفاجئة وغير صادمة كما صورها البعض، بل أنه لو أن ظروف حركة فتح الداخلية كانت أفضل ممّا هي عليه لكانت الحشود أكبر، وعليه أنتاب فتح شعور بأنها استعادت عرشها المسلوب منها منذ 2006، وبدأت تتحدث بلغة القوة والنصر، وهي نفس لغة حماس بعد معركة غزة الأخيرة.. ولكن ماذا نقرأ من موسم الانطلاقات؟
يقتصر الحديث هنا عن حركة الجماهير الفلسطينية، ومشاركتها في موسم الانطلاقات، وخاصة مع حركتي فتح وحماس، وما هي المتغيرات الجماهيرية التي حيرت المراقبين والمحللين السياسيّين في تحولاتها خلال أيام، حيث ما بين حشود حماس وحشود فتح سوى أيام معدودات.
البداية تؤكد أن هناك حالتين، الأولى هي حالة الإجبار للخروج وهي ممثلة بالحالة الحاكمة التي تتطلب من كل الموظفين والعاملين والعناصر الملتزمة تنظيميًا بأسرهم الخروج إلى الاحتفال، والثانية حالة التثوير التي لا تعتمد على التأطير الحزبي فقط، بل على حالة التعبير عن موقف أو عن ثوريتها ضد موقف.
في عام 2006 مع الانتخابات التشريعية الفلسطينية، كانت جماهيرنا الفلسطينية قد أتخمها فساد السلطة، وفساد رموزها، وظلم أجهزتها الأمنية والمدنية للمواطن الفلسطيني، فكان الشكل الظاهري يقول أن الأغلبية للحزب الحاكم، ولكن في الباطن كانت الجماهير تترقب الفرصة للتخلص من هذا الفساد، ومعاقبة أصحابه، وبما أن الساحة الفلسطينية كانت مفرغة من البدائل الوطنية، وكانت تشهد نشاط اجتماعي وعسكري مقاوم مميز لحركة حماس، لجأت إليها الجماهير كمخلص ومنقذ مما هي فيه من ظلم الفئة أو الحزب الحاكم، فاختارت الجماهير منقذها دون النظر للتأطير الحزبي أو المشروع الأيديولوجي أو الحزبي، وإنما بحثت عن قوة منقذة لها من الفساد الذي أرهقها، وأدمى حياتها، وأضاع مستقبلها، فكان الحدث الأبرز اكتساح حركة حماس لمقاعد المجلس التشريعي، على أمل أن تجد بها الجماهير العدالة الاجتماعية، والمساواة، والحرية، ولقمة العيش الكريمة، إلَّا أنّ حركة حماس لم تأتِ بجديد بل اعتقدت أنّ هذا الاكتساح هو حصيلتها المؤطرة حزبيًا وأنه الثابت لها فواصلت نهج السلطة السابقة، وأدارت ظهرها لجماهيرها، وغضت النظر عن مظالم شعبها وشكواه، واستمرت في البحث عن حماس المغرورة بنصرها، ولم تتعامل مع حركة التغيير الفعلية، وكيفيتها، والمزاج الجماهيري، بل اعتمدت على الرصيد الكمي في تعاطيها بتعالي مع الجماهير، ولم تعد تؤمن بالتعاطي الكيفي كما كانت عليه وهي حركة معارضة، وتعالت على شعبها وحصرت نفسها في دائرة أصحاب السلطة والمتنفذين.
فاحتفظ الناخب الفلسطيني بصبره حتى سنحت له الفرصة مرة أخرى ولكن ليس بشكل رسمي كما فعل مع حركة فتح سابقًا، ولكن بشكل غير رسمي ليعبر عن معاقبته لحماس من خلال الزحف لمهرجان فتح وهو شيء طبيعي في ظل غياب البديل أو التيار الثالث القادر على استيعاب حركة وإرادة الجماهير، فحركة الجهاد الإسلامي غير قادرة حتى راهن اللحظة عن الخروج عن دائرة البندقية فقط، والتوغل في هموم الجماهير واشكالياتها الاجتماعية والحياتية والسياسية، وإنما تعتمد على سياسة تحقيق الرضا لعناصرها والمقربين منها فقط، ولم تتفاعل مع الجماهير بفاعلية من خلال مؤسسات اجتماعية ومدنية فاعلة، رغم إنها تحاول ولكن كل محاولاتها صورية على حياء محصورة في الإطار النظري فقط. أما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فهي سجينة أزماتها السابقة والحالية، ولم تتحرر بعد من هذه الأزمات، وتنحصر رويدًا رويدًا في دوائرها المغلقة، حتى إنها لم تعد تبالي بكادرها وعناصرها السابقين، وأغلقت الباب على نفسها، واكتفت بالتصريحات الإعلامية فقط، وأصاب الشلل والعجز أطرها الجماهيرية والاجتماعية رغم الخبرات والإمكانيات التي تتوفر لديها.
بناءً عليه لم تجد الجماهير مسلكًا سوى العودة لحركة فتح مرة أخرى، رغم كلّ سلبياتها، ولكن هذه العودة كخيار لا بديل عنه، بعد إدراكها لحقيقة عدم جدوى التغيير السلوكي لحركة حماس، تحت مبدأ فاسد أفضل من فاسد وظالم. وهي الحقيقة التي أدركتها كذلك الشعوب العربية وجماهير الميادين الثورية في مصر وتونس، التي حولت مسار ربيعها إلى قوى الإسلام السياسي، ولكنها سرعان ما أدركت أن هذا البديل ما هو سوى امتداد للأنظمة التقليدية السابقة، ولم تأتِ بجديد بل أضافت الأسوأ، وعليه فقد هبت جماهير مصر الشقيقة في تحدي كامل لإعلان الدستور المكمل، وكذلك الجماهير التونسية التي تزيد تمردًا وثورة يومًا تلو يوم على اختياراتها الشعبية بعد ثورة تونس.
هنا استذكر مقولة لحكيم الثورة جورج حبش ومدى بصيرة هذا القائد ورؤيته للأمور التي لم يتعلم منها قادة ومخططي الإسلام السياسي، عندما قال " إن أردتم اسقاط قوى الإسلام السياسي جماهيريًا سلموها السلطة" فهل كانت رؤيته هذه استدراكًا لعقلية وتفكير قادة هذه القوى، أم قراءة مستقبلية لمنهج وسلوك قادة هذه القوى.
سامي الأخرس
الخامس من كانون ثان (يناير)2013
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت