إن الذي أحياها لمحيي الموتى ..

بقلم: الشيخ ياسين الأسطل

سبحان الله ما طرفت عينٌ وذرَّ قرنٌ ونطق لسان ، خلق الليل والنهار – بحكمته- فهما بتصريف المقادير يختلفان ، وسَيَّرَ الكواكب في أفلاكها فهي دائبةٌ في الدوران ، بالحق رفع السماوات بلا عَمَدٍ بل بقدرته الملكُ الديَّان ، وبسط الأرض وقدر فيها أقواتها ووضع الميزان ، جعل من الماء كلَّ شيءٍ حيٍّ فتفجرتِ الأنهارُ بالجَرَيَان ،وأنزله مباركاَ من السحاب كما شاء يسوقه فهو مبدعُ الأكوان ، يحيي به الأرض الميتةَ ويسقيه الأنعام والأناسي آياتٍ لأولي النهى والعرفان ، إن الذي أحياها لمحيي الموتى يوم يدعوهم فما يتخلف إنسيٌّ ولا جانٌّ ، يا إخوة الإسلام : يقول الله تعالى في سورة الروم :{ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) }. قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسيره [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ] :
يخبر تعالى عن كمال قدرته وتمام نعمته أنه { يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا } من الأرض، { فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ } أي: يمده ويوسعه { كَيْفَ يَشَاءُ } أي: على أي حالة أرادها من ذلك ثم { يَجْعَلُهُ } أي: ذلك السحاب الواسع { كِسَفًا } أي: سحابا ثخينا قد طبق بعضه فوق بعض.{ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } أي: السحاب نقطا صغارا متفرقة، لا تنزل جميعا فتفسد ما أتت عليه. { فَإِذَا أَصَابَ بِهِ } بذلك المطر { مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } يبشر بعضهم بعضا بنزوله وذلك لشدة حاجتهم وضرورتهم إليه فلهذا قال: { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } أي: آيسين قانطين لتأخر وقت مجيئه، أي: فلما نزل في تلك الحال صار له موقع عظيم [عندهم] وفرح واستبشار.{ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج كريم.{ إِنَّ ذَلِكَ } الذي أحيا الأرض بعد موتها { لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فقدرته تعالى لا يتعاصى عليها شيء وإن تعاصى على قدر خلقه ودق عن أفهامهم وحارت فيه عقولهم ) اهـ.
عباد الله :ويقول جل وعلا في سورة فصلت : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}.

وفي ذلك يضرب الله عز وجل مثلاً للبعث بعد الموت ، وليوقن أهل الإيمان وتطمئن قلوبهم ، ويذهب الريب عن قلوب المرتابين ، فالله جل شأنه على كل شيء قدير ، وهو وحده المستحق للعبادة ، يكشف الضر ، وينزل الغيث ، ويرسل الرسل ليدعو الخلق لتوحيده وعبادته وعدم الإشراك به كما جاء الحديث الذي رواه أبو داود والإمام أحمد قال أبو داود :
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي غِفَارٍ حَدَّثَنَا أَبُو تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيُّ وَأَبُو تَمِيمَةَ اسْمُهُ طَرِيفُ بْنُ مُجَالِدٍ عَنْ أَبِي جُرَيٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ : ( رَأَيْتُ رَجُلًا يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأْيِهِ لَا يَقُولُ شَيْئًا إِلَّا صَدَرُوا عَنْهُ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ قَالَ : " لَا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلَامُ فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ قُلْ السَّلَامُ عَلَيْكَ قَالَ قُلْتُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ الَّذِي إِذَا أَصَابَكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَهُ عَنْكَ وَإِنْ أَصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَهَا لَكَ وَإِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ قَفْرَاءَ أَوْ فَلَاةٍ فَضَلَّتْ رَاحِلَتُكَ فَدَعَوْتَهُ رَدَّهَا عَلَيْكَ قَالَ قُلْتُ اعْهَدْ إِلَيَّ قَالَ لَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا قَالَ فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرًّا وَلَا عَبْدًا وَلَا بَعِيرًا وَلَا شَاةً قَالَ وَلَا تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنْ الْمَعْرُوفِ وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَعْرُوفِ وَارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهَا مِنْ الْمَخِيلَةِ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ وَإِنْ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيَّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلَا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فَإِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ " ) اهـ .

إخوة الإسلام والإيمان : حكى الإمام أبو داود قال : حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ نِزَارٍ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مَبْرُورٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: شَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُحُوطَ الْمَطَرِ فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَكَبَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَالَ : " إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَدْعُوهُ وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ ثُمَّ قَالَ :{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ " . ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إِبِطَيْهِ ثُمَّ حَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ وَقَلَبَ أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابَةً فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ فَلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتْ السُّيُولُ فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إِلَى الْكِنِّ ضَحِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فَقَالَ : " أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ " .قَالَ أَبُو دَاوُد:
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقْرَءُونَ :{ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ، وَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حُجَّةٌ لَهُمْ .

اللهم ياربنا ندعوك لا شريك لك ، فأعزنا بعزة حولك وقوتك ونصرك العزيز ، فإننا الضعفاء إلا بك ، والحقراء إلا منك ، وأنت العليم بنا ،نعوذ بك من شر الشيطان وشركه ، ونجنا يا إلهنا من شر نفوسنا وشر كل ذي شر إنك سميع الدعاء .

أيها المسلمون ، عباد الله :إن إنزال الغيث لمن الآيات الدالة على عظمة الله تعالى وحكمته في خلقه ، فالماء أصل الحياة بإذن الله عزوجل ، وفي هذا يقول الله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30 .
{أو لم ير الذين كفروا} أي الكافرون بالله عزوجل وقدرته وعلمه ووجوب عبادته وعدم الإشراك به إلى مظاهر قدرته وعلمه وحكمته في هذه المخلوقات بسمواتها أرضها كذلك كانتا رتقاً أي كتلة واحدة من فخلق الله تعالى من هذه الكتلة الواحدة السموات والأرضين هذه واحدة والثانية أن السماء تتفتق بإذنه تعالى عن الأمطار، والأرض تتفتق عن النباتات المختلفة في الألوان كما وفي الروائح والطعوم والمنافع، وأن كل شيء حيّ في هذه الأرض من إنسان وحيوان ونبات وغيره مما نعلم ومما لا نعلم هو من الماء أليست هذه كلها دالة على عظمة الله ووجوب عبادته وتوحيده فيها بلا شريك ولا نديد ؟
فما للناس لا يؤمنون؟ .
قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن رحمه الله : ( .. قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}: ثلاث تأويلات ، أحدها : أنه خلق كل شيء من الماء ؛ قال قتادة الثاني : حفظ حياة كل شيء بالماء. الثالث : وجعلنا من ماء الصُّلب كل شيء حي ) اهـ .

ونقل الإمام السيوطي رحمه الله في الدر المنثورقولين للسلف : الأول : رواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة عن مجاهد رحمه الله في قوله : (كانتا رتقا ففتقناهما ) قال : فتق من الأرض ست أرضين معها فتلك سبع أرضين بعضهن تحت بعض ومن السماء سبع سموات منها معها فتلك سبع سموات بعضهن فوق بعض ولم تكن الأرض والسماء مماستين ...

والثاني: أخرجه ابن المنذر وابن ابي حاتم عن الحسن وقتادة في قوله : كانتا رتقا ففتقناهما قال : كانتا جمعا ففصل الله بينهما بهذا الهواء .
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال : كانت السموات والأرضون ملتزقتين فلما رفع الله السماء وابتزها من الأرض فكان فتقها الذي ذكر الله .

عباد الله :فلنخلص لله تعالى موحدين غير مشركين ، ولنتبع سنة نبينا صلى الله عليه وسلم صادقين لا كاذبين ، ولنعمل جادين على إصلاح ذات بيننا ، وتوحيد كلمتنا وتوحيد صفنا على ما عليه السابقون ، ولنسلم ونستسلم إيماناً وإذعاناً للحق واعلموا أن الصلح هو أعظم الواجبات علينا ، وعلينا التمسك بالكتاب والسنة ونهج السلف الصالحين ، والصبر الصبر مع الصلاة كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } البقرة153.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت