لقد خلق الله الكائنات الحية متنوعة ومختلفة في أشكالها ومآكلها ومشاربها وذلك في منظومة تكاملية ومحسوبة بدقة مطلقة لا يقدر عليها المخلوقات، تجعل من الكون قائماً بمهمة ايواء هذه المخلوقات وكافلاً لها في رزقها، فنجد التنوع في الحيوانات والنباتات، مخلوقات حيوانية ونباتية مختلفة في أشكالها حتى في الصنف الواحد أو العائلة الواحدة، وأوجد بينها تكاملاً غذائياً ووظيفياً، فالحيوانات تتغذى على النباتات وكذلك تتغذى على بعضها البعض، والنباتات تتغذى من الأرض، وتمتص ثاني أكسيد الكربون الضار، وتخرج الأكسجين الضروري للكائنات الحية.
وما يهمنا من الكائنات الحية في هذا الصدد هو الإنسان. الذي ميزه الله بعقل متقدم عن عقل باقي المخلوقات، ولذلك خصه الله بقانون ينظم العلاقة بين البشر يختلف عن القانون الذي ينظم العلاقة بين الحيوانات بعضها مع بعض وبينها وبين النباتات، حيث جعل الله رزق الحيوانات والنباتات على بعضها البعض، لذلك كانت تحكمها فيما بينها شريعة الغاب. القوي يأكل الضعيف. والضعيف قادر عن الدفاع عن نفسه في ماراثون صراع مرير على البقاء، لكنه في نهاية المطاف فانٍ وميت بتاريخ الإستحقاق المقدر له لا محالة سواءً عاش طويلاً أم قصيراً.
أما الإنسان فقد خلقه الله كذلك مفطوراً على التنوع، متنوعاً في شكله ومتدرجاً في عقله ومواهبه، وبالتالي متنوعاً في فكره وفلسفته بهذه الحياة. ولقد أراد الله من هذا التنوع بالشكل والفكر ليكون خادماً ونافعاً للناس جميعاً. وميداناً للتنافس الشريف على الخير والصلاح، والقانون الذي ينظم العلاقة التنوعية بين بني البشر هو قوله تعالى في كتابه العزيز:
"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
بمعنى أن الله يخبرنا بأنه خلقنا من مصدر واحد، وعليه فإننا سنتساوى أمامه جميعاً يوم البعث والحساب، لا فضل لإنسان على الآخر الا بنتيجة الإمتحان في الدنيا، أي بما قدمت يداه، وخلقنا مختلفين في الشكل فمنا الطويل ومنا القصير ومنا الوسيم ومنا القبيح وما بينهما، ومختلفين في القومية (النسب)، وفي درجات العقل، فمنا الذكي ومنا متوسط الذكاء ومنا الغبي، وبالتالي مختلفين بالفكر والفلسفة وبالعقيدة، ومختلفين في لغة التخاطب فيما بيننا، وفي لون البشرة فخلق منا الأبيض والأسود والحنطي والأصفر.
ولم يفطر الله خلقه للإنسان على التعارف فطرة إجبارية، بل جعل هذا الهدف (التعارف بالحواروباللتي هي أحسن وأسلم) إختيارياً يحدده الإنسان لنفسه، لذلك وضع مكافأة لمن يسلك هذا النهج، بحيث يكون مكرماً عند الله في الدنيا والآخرة، وجعل الحياة الدنيا أمتحاناً وسباقاً ماراثونياً بين الناس نحو نيل هذا الشرف وهو تكريم الخالق لهم. سباقاً بين الخير وبين الشر، فعندما أنزل الله آدم وحواء الى الأرض أنزل معهما الشيطان، وكان قادراً على هلاك الشيطان، ولكنه أراد أن يمتحن الناس في عقولهم التي إئتمنهم عليها، والحياة بدون إمتحان وانتظار للنتيجة والتقييم لا معنىً لها، فنتيجة الإمتحان هي تذكرة الدخول الى نور النجاح والفلاح وحسن المصير. وهي كذلك تذكرة الدخول الى ظلام الخيبة والفشل وسوء المصير. وهي الدافع الى العمل والسعي.
ولم يظلم الله خلقه من الناس في مصيرهم، لأنه:
أولاً -- وهبهم العقل ليكون هادياً لهم لتمييز طريق الخير عن طريق الشر، وبالتالي يكون له القرار وحرية الإختيار في سلوك اي الطريقين، حيث قال تعالى "وهديناه النجدين" وقال أيضاً " ونفس وما سواها، فألهما فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها". فأنت أيها الإنسان أما خيارين لا ثالث لهما: إما أن يقودك عقلك الى النجاح وإما أن يوصلك الى الخيبة. ولم يظلم الله الناس ثانياً :
بأن تركهم بدون بيان وتبيان للمنهاج الصحيح في الحياة الدنيا، لذلك أرسل لهم الرسل والأنبياء منهم ليبلغونهم برسالاته التي تدلهم على المنهاج الصحيح بالمعتقد وبطريقة الحياة، ومواجهة عقباتها وتشابكاتها، ليخفف عنهم عبء التفكير والحيرة في خلق هذا الكون، ويحفظ جهدهم العضلي والفكري من أجل استغلاله في تطوير حياتهم للأفضل بالمكتشفات والإختراعات، إذ قال تعالى "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً".
وسيظل الناس هكذا في صراع بين الخير والشر، حيث بين الله لرسوله فئات الناس من مؤمن وكافر ومنافق، وطلب منه أن يبلغ الرسالة وأن يعمل على الإصلاح قدر طاقته، وأن يترك النتائج على رسلها مهما كانت، ولا يتأسى عليها أبداً إذ عليه البلاغ فقط، حيث قال له "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء". وأخيراً بين لنا في حوار النبي مع الكفار في سورة "الكافرون" – لكم دينكم ولي دين_.
ما نريد أن نقوله في هذا الصدد، أنك أيها الإنسان وفي أي موقع كنت (حاكماً أو محكوما، راعياً أو مرعياً)، لا يمكن أن تلغي فطرة الناس على التنوع وخاصة بالفكر والعقيدة، وتحاول بما اوتيت من قوة وسلطان أن تجعل مجتمعك لوناً عقدياً أو فكرياً واحداً، وأن تطمس وتجتث بقية الألوان الفكرية والعقدية بالقوة والإكراه، مستخدماً ما أوتيت من سلطان، بل يجب عليك أن تتعامل مع هذا الواقع المتنوع بالفكر كتنوع ألوان قوس قزح إذ يمثل الظاهرة الصحية في المجتمع المتحاور بالتي هي أحسن. وأن تنتهج نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في إنشاء دولة المدينة، حيث وضع وثيقة (صحيفة) مدنية وليست عقدية للحكم، تراعي هذا التنوع والتناقضات في المجتمع، وتتعامل مع المواطن بغض النظر عن معتقده وفكره بل على أساس حقه في المواطنة لولادته في هذا الوطن، وثيقة استوعبت الجميع تحت مظلة الوطن، واستحوذت على رضا المجتمع بأكمله، حتى اليهود الذين نقضوها، والذين انقلبوا على الوثيقة وبنودها فعوقبوا بالطرد، لأنهم لا يستحقون المواطنة التي خانوها، وثيقة لا تعتمد العقيدة فارقاً بين الناس في حقوقهم وواجباتهم تجاه المجتمع والوطن. وتركت للناس حرية الإعتقاد والفكر وممارسة العبادة. وثيقة وحدت مجتمعاً متناقضاً في أفكاره ومتنوعاً في معتقداته وعباداته، وأنهت صراعاً دامياً بين القبائل استمر لعقود طويلة. وصهرت المواطنين المتنوعين في بوتقة الوطن الواحد الذي يأويهم بميزان الحق والعدل والمساواة. وقضت على النعرات والأحقاد والعصبيات القبلية والقومية. صحيفة سياسية وإجتماعية بإمتياز. وكانت سابقة لعصرها. ساوت بين المواطنين في الحقوق والواجبات. ومنحتهم حرية الفكر والعقيدة والرأي في حدود أمن وسلامة المجتمع والوطن والمصلحة العليا للوطن والمواطنين، وإن تعدى المواطن هذه الحدود وأضر بمصلحة الوطن والمواطن سوف يتعرض للعقاب على خيانته للأمانة التي ارتضاها.
فلا تحاول أيها الإنسان أن تفرض نفسك سلطاناً على الآخرين الناس، بغطاء ديني عقدي رهابي، تفهم الناس وترهبهم بتصوير نفسك أنك تمثل الخالق على الأرض، فتكفر من تشاء وتصنف الناس حسب أهوائك ومعتقداتك، على مبدأ جورج بوش "من هو معنا فهو منا، ومن هو ضدنا فهو عدونا وعدو الله، فالله وحده هو العليم بالنفوس، وهو المتكفل بمحاسبة الناس على أفكارهم ومعتقداتهم التي لا يعلمها الا هو وحده، فتقع أنت في الجريمة إن حاسبته على معتقده من منطلق أفكارك وتخيلاتك. وقياساً على تصنيفات للناس من بنات أفكارك وافتراءاتك، فتجردهم من حقوقهم التي كفلها الله لهم. إذ تريدهم منقادين لفكرك ومكرهين عليه بجبروتك وسلطانك. فمكر الله أكبر من مكر الماكرين من عباده. وستبوء جهودك الرامية الى تلوين مجتمعك بلون واحد تريده أنت بالفشل الذريع وبالسقوط المروع. لأن ذلك يختلف ويتناقض مع فطرة الخالق للخلق، فتقع بمعصية الله ومقت الناس وثورتهم عليك. فتحد من سلطان العقل لحساب سلطان التعصب للفكر والعقيدة. فتلغي العقل الذي هو هبة من الله لعباده. وتعطل عجلة المسيرة والتقدم والتطوير. وتدفع عجلة التخلف، فتتعثر المسيرة، وتنكفء الأمة وتتخلف عن غيرها من الأمم التي حررت العقل من تعصب الفكر والعقيدة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت