ماذا لو تخيلنا مدرسة بدون بوابات وبدون أسوار ، والتلاميذ فيها يترفعون من فصل الى اخر دون اختبارات ودون أدنى عملية تقييمية، والمدرسة ليس فقط ممنوع الضرب فيها بل غير مسموح فيها بالمطلق اي شكل من اشكال التأنيب للطالب ، ولا يسمح لكائن من كان بالمدرسة ان يسجل إخفاقا لطالب، والمعلم اثناء الشرح يمكن له ان يتبادل الكرة داخل الفصل مع تلاميذه، مؤكد اننا سنخرج هذه المدرسة من منظومة التعليم التي نعرفها، ونضعها في بوتقة الترهل التعليمي التي تفضي لكارثة معرفية يخرج منها التلاميذ صفر اليدين
لكن هذا ما تفعله فنلندا، وما عكفت لسنوات طويلة من اجل تطبيقه ضمن خطة الاصلاح التعليمي التي جاءت بها الحكومة الشيوعية منذ عقود، ومع رحيل النظام الشيوعي عن الحكم لم يهدم من جاء بعدهم هذا المعبد بل حافظ عليه ووفر وسائل الدعم لنجاحه، على خلاف ما يحدث لدينا حيث يتكفل المسؤول الجديد بهدم ما كان قائما على اساس ان ما سبقه لا قيمة له وانه فقط يمتلك القدرة على اقامة الدين في مالطا، المهم ان ما تنفقه فنلندا من موازنتها للتعليم يقل بكثير عما تنفقه العديد من الدول المتحضرة، وان التعليم الاساسي لديها مجاني تشرف عليه البلديات ضمن مفهوم اللامركزية، ورغم ذلك فهي تأتي في مقدمة الدول من حيث النسبة بين التلاميذ والمعلمين " 12 طالب لكل معلم"، والاهم من ذلك انها تأتي في مقدمة دول العالم من حيث التحصيل العلمي، ولعل هذا ما خلصت اليه نتائج البرنامج الدولي لمتابعة مكتسبات الطلاب حيث أظهرت النتائج تفوق الطلاب الفنلنديين على نظرائهم في العالم بمن فيهم القادمين من دول تفتخر بمنظومتها التعليمية
الفلسفة التعليمية في فنلندا تعتمد بالمقام الاول على تحويل المدرسة لمكان محبب للطالب، يجد فيها التشجيع لا التأنيب، ومهمة المعلم تكمن بالمقام الاول في البحث عن نقاط الإبداع والتميز لدى الطالب لا على تسجيل إخفاقاته ونقاط قصوره، والمعلم لا تقتصر مهمته على تلقين الطالب بالمعلومة بل يتابع كافة شؤون الطالب الحياتية، وقد يستعين من اجل ذلك بالأسرة عبر زيارات متكررة لها، ويساعده في ذلك مستشار تربوي يتواجد في المدرسة لهذا الغرض، المعلم لديهم يتابع التلميذ في كل صغيرة وكبيرة، في ظل هذه الفلسفة التعليمية والنتائج المذهلة التي سجلتها من الطبيعي ان تختفي لديهم المدارس الخاصة وان تسقط من حياتهم الدروس الخصوصية
قد يرى البعض ان هذه الفلسفة تصلح في فنلندا ولا تصلح البتة في مجتمعنا، وان البون شاسع بين سلوك التلميذ والبيئة المحيطة به في فنلندا عنها في فلسطين، قد يكون من الخطأ التفكير بنقل هذه التجربة على قاعدة صورة طبق الأصل، ولكن من المفيد ان نتوقف عند حقائق ماثلة أمامنا لا نعمل على معالجتها بل نهملها ونمعن في ترسيخها رغم معرفتنا المطلقة بانعكاساتها السلبية على المسيرة التعليمية لدى التلميذ، ولنأخذ مثالا يصلح للمقارنة، التلميذ لدينا في السنوات الدراسية الاولى من التعليم الاساسي يعود للمنزل فرحا ببعض كلمات الثناء التي سمعها من معلمه أو تلك التي خطها له على كراسته، ويدفعه ذلك ليس فقط لتعلقه بالمعلم والمدرسة بل أيضاً تشكل دافعا له لمراجعة دروسه، وفي المقابل تأنيب التلميذ لا يأتي سوى بانتكاسات تتعلق بعلاقته بالمدرسة والمعلم والمادة، ترى هل الدائرة الحمراء في الشهادة "الكعكة" وما ينتج عنها من سخرية واستهزاء للتلميذ من قبل زملائه يمكن ان تخدم التلميذ وتدفعه لتحسين مستواه التحصيلي؟ أم أن النتيجة تكون مزيدا من الفشل وقد تدفع التلميذ لترك المسيرة التعليمية مبكرا وهو محاط بمصطلحات الفشل التي تلاحقه في حياته
في عالمنا المعاصر سجل الكثير نجاحات منقطعة النظير في علوم شتى رغم ان الفشل كان حليفهم في التعليم، لكن هؤلاء عملوا على تفجير مكنوناتهم الابداعية وسلكوا طريقهم في الحياة بعيدا عن المدرسة ومنغصاتها، وفي الوقت ذاته كم من الطاقات البشرية تم وأدها في المهد بفعل سلوك محبط من معلم ومدرسة لا هم لهم سوى التنقيب عن علامات فشل التلميذ
اعتقد ان مهمة المدرسة والمعلم يجب ان تتمحور في المقام الاول حول الكشف عن نقاط الإبداع لدى التلميذ وتوفير كافة السبل لرعايتها واحتضانها، ولعل هذا يوفر سبل تغيير نظرة الطالب لدينا للمدرسة، فالعلاقة التنافرية بين الطالب والمدرسة لا يمكن ان يولد من رحمها منظومة تعليمية قادرة على تغيير ثقافة وسلوك المجتمع ويؤهلها لنقل المجتمع نحو التطور والرقي في شتى مناحي الحياة، مع الأخذ أيضاً بعين الاعتبار حاجتنا لتعديل هذه العلاقة للاستفادة من الثورة المعرفية التي تجتاح عالمنا، عندما ننجح في تحويل المدرسة لمكان محبب لدى كل التلاميذ نكون قد وضعنا قاطرة التعليم على طريقها الصحيح ، وبدون ذلك نفقد الكثير من الطاقات ليس فقط في حاضنا بل فيما يتعلق بمستقبل الأجيال القادمة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت