مؤتمر الكرامة الإنسانية بين فلسفة الأفكار وحاجات الفقراء

بقلم: حسام شحادة


جاء مؤتمر الحق في التنمية والكرامة الإنسانية نحو مقاربات مستحدثة لموضوعة الحقوق وتطبيقاتها في السياق الفلسطيني، كسابقة فكرية، ثقافية، وقانونية، للمؤسسات المنظمة له، مما يدلل بشكلٍ واضحٍ على مستوى الوعي بحاجات الناس، الذي وصلت له هذه المؤسسات، ومدى قدرتها على تناول هذا المفهوم، الذي برز من خلال المشاهدات الميدانية لواقع الفئات الهشة عبر عملهم في العيادات القانونية، حيث جاء المؤتمر بمشاركة نوعية من قبل طاقات، وباحثين محليين ودوليين في مجال القانون وحقوق الإنسان لمناقشة موضوع الكرامة الإنسانية وتطبيقاتها في السياق الفلسطيني كمبادرة نوعية أولى من مؤسسات ائتلاف الجنوب.

لقد أحرج المؤتمر المداخلين والحضور معاً، كونه يبحث في دواخلهم عن فكرةٍ جديدةٍ ومقارباتٍ نوعية نحو تطبيق الكرامة الإنسانية، عبر التمكين الاقتصادي، وإعمال مبادئ القانون، فالجميع كان يدور حول أدبيات الموضوع ولا يستطيعوا اختراق جدار الواقع نظراً لصعوبة تناوله، أو لحداثة التجربة وضعف الأدبيات الفكرية في استيلاد أدوات جديدة لتطبيق مفهوم الكرامة، في ظل واقع المجتمع الفلسطيني الذي ما
زال يقبع تحت سلطة الاحتلال الاقتصادية، والسياسية. ولكني كنت سعيداً جداً بكل الناس الذين إلتأموا معاً للحوار والمناقشة بغض النظر عن ما سوف تفضي إليه هذه المناقشة من تغيرات على أرض الواقع، أو تُبقي الوضع في قفص المحاكمة الفكرية، ولكنها على الأقل سوف تضعُنا على الخط الصحيح لممارسة التفكير وإنتاج أدوات التغيير الواقعية التي تتناسب والسياق الفلسطيني لتحقيق فرصة أولية لمبادرة الانتصار لكرامة الكرامة في المقام الأول.

ولكن ما آثار حفيظتي واستفزني للكتابة في هذا السياق هو ذلك النزاع الكامن في نفوس المداخلين والحضور معاً، الذي بدأت شراراته منذ اليوم الأول، والذي جعل طرفاُ قوياً وطرفاً ضعيفاً، مع تبادل الأدوار بين الفنية والأخرى بين أنصار القانون الدولي والثقافة العالمية من جهة، والنظرة الداعية إلى تعزيز فكرة الثقافة الإسلامية من جهة أخرى، مؤكدة من خلال طرحها على فكرة العادات والتقاليد، داعية بقوة إلى أسبقيتنا كأمة إسلامية وعربية بمفهوم الكرامة الإنسانية، مركزة على تفعيل القوة الداخلية والأفكار المستقاة من البيئة المحلية لإثراء مفهوم الكرامة الإنسانية كقيمة عليا ذكرها الدين الإسلامي ورُسِخًتْ عبر النسق الاجتماعي العربي الإسلامي على مر العصور.

وقد يبدو الأمر في طرحه الأولي مختلفاً بين كل من الطرفين وهذا ما فهمه الجمهور، وكأن ما هو دولي في إطار شرعة حقوق الإنسان ومفهوم الكرامة، يتفق في جانب، ويختلف في آخر مع ما هو راسخ في العقل الجمعي الإسلامي في المنقطة العربية عامة والفلسطينية خاصة، مما آثار نقاشات متباينة بين الحضور تارة والمناقشين تارة أخرى، وعلى الرغم من أهمية وإيجابية التباين في الآراء إلا أنه من المهم تسليط الضوء على هذا النهج في تناول القضايا الكبرى والقيم العليا للمجتمع.

إن ما ذكر أعلاه يقودني بشجاعة إلى فكرة الاختزال الضيق للقيم، فاختزال الكرامة الإنسانية في إطار ما، أو وثيقة ما، أو أمة ما دون غيرها من الأمم، أمر في غاية الغرابة والنرجسية وهو أول مؤشرات الانتهاك لمفاهيم الكرامة والتسامح، الذي ندعي ضرورة تأصيلهما في المجتمع، فالناس ليسوا بحاجةٍ إلى مناقشةِ فضل الأمم وأسبقيتها في تناول قضية الكرامة الإنسانية، بقدر ما هم بحاجة إلى تلمسِها مادياً على أرض الواقع، ففتح الإطار للنقاش في هذا الموضوع هو بمثابة الدخول في متاهة جديدة لا معنى لها سوى الانتصار والنرجسية الفردية للأطر الفكرية التي تتبنى هذا النهج في التفكير. تماما مثل مصطلح القوى الإسلامية والوطنية في الإطار الأضيق وكأن ما هو إسلامي ليس بوطني وما هو وطني ليس بإسلامي.

فالكرامة ليست حكراً على دين بعينه، ولا هي صناعة دولة ليبرالية بعينها، ولا هي فعلاً سحرياً من بلاد المغرب العربي، ولا هي حكراً على الإنسان وحده، بل هي مُنحت من الله لكل الكائنات على وجه
الأرض. وهذا يقودنا بيُسر وهدوء إلى اصطلاح النسبية الثقافية، أو النسبية المعرفية، الذي أكده الجاحظ عندما تحدث عن الفضائل والمثالب، قائلاً : إن كل من الفضائل والمثالب موزعة بين الأمم فلا توجد أمة تمتلك أحداهما بشكل كامل، حيث الكل يتقاسم الفضائل والمثالب معاً وفي آن، وهنا أتذكر قول للعلامة الشيخ عدنان إبراهيم عن جماعة صوفية تسمى" إخوان الصفا وخلان ألوفا" ولهم عبارة في غاية الغرابة تقول: " الإنسان الكامل هو فارسي النسب، عربي الدين، حنفي المذهب، عراقي الآداب، هندي البصيرة، يهودي المخبر، مسيحي المنهج، شامي النُسك، ملكي الأخلاق) وبغض النظر عن تحليل المفردات التي قد نختلف معها ولكن ما نود هنا التركيز عليه هو روح العبارة ذاتها، الذي يؤكد أن الانسان الكامل لا يمكن أن يوجد في ثقافة واحدة، أو يتبع أمة واحدة، أو منهج واحد، أو يوجد أصلاً على وجه الأرض، فالكمال والحقيقية المطلقة ملك لله عز وجل الذي قال مخاطباً نبيه محمد بن عبد الله " قل ربي زدني علما" فالله الأعلى والأعلم دوماً، وما نحن فيه من معرفة مادية في هذا الكون لا يرتقى لفكرة الكمال ذاتها لتدعي أي أمة امتلاكها للحقيقة المطلقة.

وما ينطبق على فكرة الحقيقية المطلقة ينطبق بالضرورة على فكرة الأخلاق وما تتضمنه من مفاهيم إنسانية وعلى رأسها الكرامة الإنسانية التي تعتبر قيمة في حد ذاتها، لا يمكن الوصول لها بالمطلق فهي نسبية إلى حد بعيد، متجددة، ومتغيره، بتغير الحاجات الانسانية، وهي مفهوماً متدخلاً بين ما هو: نفسي، اجتماعي، اقتصادي، وسياسي، لا يمكن فصلها عن سياقها وثقافتها العالمية. وعليه لا يمكن القبول بفكرة اختزال القيم العليا للبشرية في ثقافات بعينها وتحجيمها وفق سياقات محلية جامدة، فإذا أردنا الانتصار للفقراء، والفئات الهشة، والمستضعفة في فلسطين وغيرها، علينا أن نتخلص من نرجسيتنا وقوالبنا الفكرية الجاهزة التي تعمل كمجس لقياس الكل الثقافي البشري وتعديله وفقها، ونتجه للفضاء الفكري الأرحب الداعي إلى الاستنارة من كل المنتج البشري، واستثماره لصالح الناس الهشة، فهؤلاء الضعفاء، والفقراء لا يفقهون كثيراً فلسفة الأفكار، بقدر ما يجيدون فلسفة الحاجات الحقيقية التي تساهم في تنميتهم، وليس تنمية أفكارنا ونجاحاتنا على بقاياهم.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت