ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ..

بقلم: الشيخ ياسين الأسطل

الخلائق بين العجز والتقصير، والاختلاف والتنازع ، إلا من رحمه الله ، وهذه هي طبيعة الخليقة ، والسبب اختلاف الميول والأهواء ، وما ترتب عليها من تصرفات وأعمال ، وهذا لاختلاف الأفهام وتنوع الاستعدادات الفطرية عند البشر ، وقد أخبرنا الله تعالى أنه أعلم بنا إذ خلقنا فقال :{ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) }سورة الملك .

واقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يبعث إلينا الهداة المرسلين ، والأنبياء المكرمين بوحيه الأمين ، ودينه الواضح المبين ، وحرم علينا الاختلاف في الدين ، والتفرق فيه ، وخصوصاً إذا غير الأحوال ، وبدد الأموال ، وأفسد ذات البين ، فأوقع العداوات ، وقطع الصلات ، وفرق الجماعات ، ونقض العهود ، واستباح الحدود ، ومن الأدلة الشرعية على ذلك قوله تعالى في سورة هود : {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) }.

قال الإمام السيوطي في الدر المنثور : ( وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس :{ ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك }قال : إلا أهل رحمته فإنهم لا يختلفون .وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال { لا يزالون مختلفين } في الهوى ) اهـ. وفي الموضع نفسه قال السيوطي أيضاً : ( وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : أهل رحمة الله أهل الجماعة وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم ، وأهل معصيته أهل فرقة وإن اجتمعت أبدانهم { ولذلك خلقهم } للرحمة والعبادة ولم يخلقهم للاختلاف )اهـ .

وقال الإمام ابن كثير في تفسير القرآن العظيم :( وقوله: { إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } أي: إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين ، أخبرتهم به رسل الله إليهم ، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم الأمي خاتم الرسل والأنبياء ، فاتبعوه وصدقوه، ونصروه ووازروه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة؛ لأنهم الفرقة الناجية، كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن، من طرق يشد بعضها بعضا: "إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقةً واحدةً ". قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي" ) اهـ .

ولهذا فالعصمة لأنبيائه سبحانه وتعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام لأنهم يبلغون الناس بما أمرهم الله من الوحي المنزل عليهم ، ثم العصمة للأمة في مجموعها بإيمانها واتباعها واجتماعها ، وقد جاء خبرُ النقل وقطعُ العقل بأن الأمة لا تجتمع على ضلالة أبدا ،فاجتماع الأمة حجةٌ بلا خلافٍ بين المسلمين ، ولا من العقلاء من الناس ، فقد روى الطبراني في المعجم الكبير عَنْ عَمْرِو بن دِينَارٍ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلَى الضَّلالَةِ أَبَدًا , فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ "اهـ .

أيها الناس ، يا عباد الله : إن الاختلاف في الدين إذا كان مع التعاكس والتشاكس والتضاد ، والتباغض والتحاسد والعناد ، والتخاصم والتصادم ، إنما يبعث عليه التنافس والتزاحم على الدنيا وشهوة التزعم و الرئاسة والتطلع إلى مملكة الدنيا الزائلة ، لا التراحم والعبادة والتطلع إلى رضا الله جل وعلا وهو سبحانه من يملك الدنيا والآخرة ، هذا ليس ممنوعاً فحسب ؛ بل هو والعياذ بالله من الموبقات المهلكات ، ومن النصوص الدالة على ذلك :* قوله تعالى في سورة الأنعام : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) }.

قال الإمام السيوطي في الدر المنثور:( وأخرج الحكيم الترمذي وابن جرير والطبراني والشيرازي في الألقاب وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً } قال : هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة ) . وقال رحمه الله : (وأخرج الحكيم الترمذي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه وأبو نصر السجزي في الابانة والبيهقي في شعب الإِيمان عن عمر بن الخطاب « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : يا عائشة { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً } هم أصحاب البدع ، وأصحاب الأهواء ، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليست لهم توبة ، يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة ، أنا منهم بريء وهم منى براء » .اهـ .

والمعنى أن الله قد يتوب على صاحب الذنب من أهل لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما أصحاب البدع ، وأصحاب الأهواء ، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليست لهم توبة إلا أن يتوبوا من بدعهم وأهوائهم والسبب أنهم يظنون تلك البلايا عطايا فهم في ظنهم السيئ يتقربون بها إلى الله كمن يقتل النفس الحرام ، وينكح الفرج الحرام ، ويأخذ المال الحرام ، وهو مع ذلك بجهله المركب يتقرب بهذه الموبقات إلى الله رب السماوات ، ومن ذلك ما قامت به الخوارج .

قال فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله :(.. من الذي الذي قتل عثمان؟ الخوارج. من الذي قتل علي رضي الله عنه ؟ الخوارج. أفضل رجلين في زمانهما عثمان وعلي يُقتلان تقربا إلى الله جل وعلا ، هل بعد هذا الضلال من ضلال ؟ يأتي عبد الرحمن بن ملجم الذي قتل عليا، وكان متعبدا من الخوارج الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله « يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ. وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ» ما أعجبته تصرفات علي رضي الله عنه فسعى، واتفقوا على أن يُقتل ثلاثة منهم عليًّا فقُتل علي فأتوا إلى ابن ملجم ليقطعوا رأسه، فقال: إني سائلكم ألا تقطعوا رأسي مرة واحدة بل قطِّعوا أطرافي شيئا فشيئا حتى ألتذَّ بتعذيب بدني في سبيل الله جل وعلا. أعظم من هذه رغبة في سبيل الله جل وعلا، لكن هل هم رضي الله عنهم ؟ لا، بل هم كلاب أهل النار، كما قال عليه الصلاة والسلام «أيْنَمَا لقِيتُمُوهُم فاقْتُلُوهُم فإنَّ فِي قَتْلِهِم أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُم» مع أن عبادتهم عظيمة، -اسمع كلامهم- حتى أتى الخارجي الثاني يمدح هذا الذي قتل علي يقول:
يا ضربة من تقيٍّ ما أراد بها ** إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إنّي لأذكرُه حينا فأحسبُه ** أوْفى البرية عـند اللـه ميزانا

يقول أوفى البرية عند الله ميزانا هو الذي قتل علي، هذا ضلال، ضلال مبين، مع كثرة العبادة ومع كثرة الصلاح الظاهر لكنهم كلاب أهل النار، لما ؟ لأنهم لم يلتزموا نهج الصحابة رضوان الله عليهم، فالطريقة الأولى والجماعة هي الفرقة الناجية ومن عداهم لاشك أنه متوعَّد بالنار ومن أهل الضلال) اهـ .

* ومن النصوص الدالة على تحريم الاختلاف والتنازع والتخاصم في الدين أيضاً : قوله تعالى في سورة الروم : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) }.

فمقصودُ الدين يا عباد الله إنما هو توحيد الله المعبود ليعبد وحده ، وهو يقتضي عدم الإشراك به ، ومقصودُ الدين كذلك صلاح العابد في نفسه بإقامته وجهه للدين حنيفاً لا يميل إلى ما تهوى وتشتهي نفسه ، ولا يزيغ عما أمره الله به إلى ما يستميله الشيطان إليه ، وهذا لا يتم إلا باتباع النهج الأعلم والأحكم والأفهم والأسلم ، وهو سبيل الأولين من الصحابة والتابعين ومن جاء من بعدهم من المحسنين ، فهذا سبيل المؤمنين الذي قال الله في سورة النساء فيه: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) } .

أيها المؤمنون، يا عباد الله : الأصل في الأمة طهارة قلوبها ، وسلامة صدورها ، ، واجتماع كلمتها ، وائتلاف رأيها ، وتوحيد خططها وخطتها ، ولذلك وصف الله المؤمنين والمؤمنات بأنهم سيرحمهم الله فقال في سورة التوبة : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)}.
وأما الاختلاف في الرأي مع طهارة القلب ، وسلامة الصدر ، فهو طارئ علينا ، وإذا كان كذلك ؛ فلا يجوز أن يدفعنا إلى التنازع والخصومة ؛ بأن يتعصب كلٌ منا لرأيه ، وينتصر لنفسه ، بل يجب علينا أن يقودنا هذا الاختلاف في الرأي إلى بذل المزيد من الجهد المبارك في الألفة والتراحم والتماس العذر والاعتذار ، لا تَلَمُّسِ الخطا وتمحلِ الأعذار ، وقد سار بين الركبان القولُ الحسنُ : ( الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ) ، ولنا في السلف والخلف الصالح الأسوة والقدوة الطيبة :ففي سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله عن يونس الصفدي قال: ( ما رأيت أعقل من الشافعي ؛ ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا ، ولقيني فأخذ بيدي ، ثم قال: " يا أبا موسى ، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا ، وإن لم نتفق في مسألة " ؟! ..

وما رواه ابن عبد البر عن العباس بن عبد العظيم العنبري قال: ( كنت عند أحمد بن حنبل وجاءه علي بن المديني راكبًا على دابة ، قال: فتناظرا في الشهادة ، وارتفعت أصواتهما حتى خفت أن يقع بينهما جفاء ، وكان أحمد يرى الشهادة ، وعلي يأبى ويدفع ، فلما أراد علي الانصراف ، قام أحمد فأخذ بركابه ) اهـ .

قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في العمل بروايات الحديث المختلفات:(..ولا إنكار على من فعل هذا أو هذا ، ويسمي أهل العلم هذا الاختلاف اختلاف التنوع وهو جائز ، ومن هذا الباب تنوع الاستفتاح والتعوذ والتشهد وكل نوع من ذلك مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز العمل به ، وإنما الاختلاف في الأفضل من ذلك كما تقدم في أنواع الأذان والإقامة ، ومثل هذه المسائل لا ينبغي فيها الاختلاف والتشويش على الناس ، لأنها مسائل معلومة عند أهل العلم والأدلة فيها معروفة والاختلاف فيها لا يضر ، لأن كل نوع منها جائز بحمد الله ، ولكن الجهل يضر أهله ويدخلهم فيما لا يعنيهم ) اهـ.

أحبة الإسلام ، أهل فلسطين يا عباد الله :
نرجو لكم أيها المختلفون هذه المرة الصدق في إنهاء الإنقسام وعلى الفور لا بالتعاليل بالأضاليل ، يكفيكم ما مضى من التلهي والإلهاء ، فإن الاختلاف الذي بينكم إنما هو اختلاف رأي لا رؤية ، واختلاف سياسة لا عقيدة ولا دين ، وهو مما يجوز فيه اختلاف التنوع والتعدد ، والفيصل فيه هي الأمة التي أعطتكم ولايتها وولاءها ، وانتخبتكم لدنياها ، فلا يجوز لكم أن تفسدوا عليها الدين والدنيا جميعاً ، إما أن تقوموا بحقها , وإما أن تردوا إليها أمانتها ، وترجعوا لحكمها ، فملككم ليس قارونياً ولا طاغوتياً نمروذياً ولا فرعونياً ، ولا كهنوتياً ، أنتـم مسلمون فاتقوا الله فينا ، قد بلغ السيل الزبى ، ولا صبر بعد فوات ، ولا نطق بعد موات .

ألا وصلوا وسلموا على النبي المصطفى ، والرسول المرتضى صفوة الخلائق أجمعين ، سيد الأولين والآخرين ، من بطاعته صلاحُ الدنيا وزكاةُ الدين ، محمدٍ بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما ، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنه وكرمه سبحانه إنه أكرم الأكرمين .

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت