الدرس الأول: القيادة موهبة وكفاءة
لم يخلق الله شيئاً في هذا الكون الا لهدف وغرض يؤديه. وفي نهاية المطاف فإن كل الخلق يصب في تسخير الأرض وما عليها والسماء وما فيها لخدمة الإنسان الذي كرمه الله على غيره من المخلوقات. فخلقه في أحسن صورة، وأوجد فيه العقل ميزاناً يزن به ليميز الضار من النافع له ويهديه الى سواء السبيل. وعالم الحيوان هو مجتمع متنوع ومتعدد، وفيه من الفوائدالجمة للإنسان، علاوة على استخدامات الحيوانات في طعامه وشرابه وكسوته وتنقله، فقد أرادها الله لتكون مختبراً يمارس فيه تعلّمه وقدراته العقلية ليصل الى استنتاجات تفيده في الحياة. ولذلك عمل أكثر من نبي في رعاية الأغنام ليستلهم منها آيات الله في خلقه. وليتعلم من فطرتها التي لا تخطيء لأنها مسيرة بتقدير وعلم من الله.
لم لا؟ فقد أرسل الله الغراب ليعلم قابيل (الإنسان) كيف يواري سوأة أخيه هابيل الذي قتله بدافع الغيرة والحسد.
الحيوانات وهبها الله عقلاً ومشاعر وأحاسيس، فهي تحب وتكره وتفرح وتلعب، وصغارها تميل الى اللعب واللهو أكثر من كبارها كالإنسان، وتتألم وتبكي وتعرف الضار من النافع لها والصديق من العدو، وتسبح للهوكل ذلك تستلهمه بالفطرة، تماماً كفطرة الإنسان مع بعض المزايا التي كرم بها الله الإنسان عن غيره من المخلوقات بعقل متطور،وجعل له مساحة واسعة من التفكر والإبداع والإختراع وتنظيم أمور الحياة. وخصه بخصائص إنسانية كزيادة في المعرفة، وطرق أبواب العلم، والرحمة والرفق والتعاون والتكافل والتنظيم والرقي بالتعامل وبالتفكير والإرتقاء بطريقة الحياة.
وحيث أن عقل الحيوان قاصر عن عقل الإنسان وأقل رقياً منه، لذلك فهو يعيش حياته بالفطرة التي فطر عليها مسيراً في معظم أموره لا مخيراً، وتقتصر إبداعات الحيوان الفكرية والعقلية على كيفية توفير كمية الطعام الكافية له الى حد الإشباع، وإشباع حياته الجنسية والتناسلية، وتوفير الأمن والحماية له ولصغاره من إعتداءات الأعداء على حياته. ويمثل الطعام والجنس له نقطتي الخلاف اللتان تختلف وتقتتل عليها الحيوانات فيما بينها.
الغنم (الضان والماعز) في مسيرتها خلف الراعي تتبع نظاماً قيادياً متدرجاً ومتصلاً ومتواصلاً، كخطوط فريق كرة القدم، بحيث تتقدم القطيع دائماً وفي كل الأحيان رأس حربة وهي نعجة أو عنزة (أنثى) تسمى في عرف الرعاة (النَّعوق)، وعلى الأغلب أن الإسم مشتق من نعيق الغراب الذي ينذر بوقوع الخطر ويتسم بالشؤم كما هو متعارف عليه، وهذا اجتهاد شخصي في التفسير. وتتميز هذه النعجة أو العنزة النعوق بصفات قيادية، تطلق بوق الخطر للقطيع، وتتقدم الصفوف في الدفاع عن القطيع، فهي تتسم بالجرأة والإقدام واقتحام المواقع الرعوية المسموحة والممنوعة، وتحظى بقبول شعبي من كل القطيع، ولديها كاريزمة وقوة شخصية لا يقدر عليها غيرها من القطيع الاّ من يليها مباشرة في الصف الأول بعدها (وصيفاتها في القيادة). وتتمتع بحب وإعجاب الراعي بها على الرغم من تمردها على أوامره ونواهيه في بعض الأحيان، وتساعده في لملمة القطيع من خلفها وقيادة مسيرته، حيث يعلق في رقبتها جرساً يعطي الإشارة للقطيع بالمسير أو التوقف. ومن خلفها تسير البقية من القطيع في صفوفٍ متدرجة في فئات الصفات القيادية.
هنالك الصف الأول من القيادة يسير خلف الراعي بمحاذاة أو خلف النعجة النعوق والنعاج أو الماعز التي تسير في هذا الصف هي نفسها في كل الأوقات ولا تتخلف عنه، وهنالك الصف الثاني والثالث بنفس الوصف وهكذا .....الى الصف الأخير على شكل حبة الكمثرى. ويتمركز الذكور من القطيع وغالباً ما يكون ذكراً واحداً في منتصف القطيع، وإن كان اثنان من الذكور فيكون المهزوم مختبئاً في الصفوف الخلفية، والمنتصر في المنتصف، ولا يتعدى أعضاء القطيع ذكوراً وإناثاً على دور ومكانة النعجة أو العنزة النعوق (القائدة) الاّ في حالة واحدة، هي عند لحظة اللقاء بصغارها بعد انقضاء يوم الرعي والعودة الى الحظيرة لإرضاع صغارها، فتدب الفوضى بين الصفوف ويختل النظام بحكم عاطفة الأمومة المتدفقة، حيث تسبق الأمهات التي لديها صغاراً بانتظارها غيرها من غير الأمهات، راكضةً نحو صغارها في شوق مثير للإنتباه وبأضرعٍ متخمة ومليئة بالحليب الذي يكاد يفجر ضرعها من شدة الحنان والشوق.
كما أن كل نعجة أو عنزة من القطيع تنام في مكان إختارته لها بالحظيرة، ولا تغيره ولا تعتدي على مكانها أي نعجة أو عنزة أخرى، وما يلفت الإنتباه أن النعجة أو العنزة النعوق (القائدة) تختار مكاناً عالياً وبارزاً ومتوسطاً في الحظيرة. حقاً لقد وهبها الله صفات القيادة. فالقيادة موهبة من الله تسعى الى القائد لتلتصق به، وإن سعى الشخص الى القيادة والسلطة دون توفر صفات القيادة وموهبتها فيه، أو حازها بالوراثة، فسيكون قائداً فاقداً للشعبية وبالتالي فاقداً للشرعية، وفاشلاً في إدارته لفقدان الثقة بالنفس الناتج عن فقدان موهبة القيادة ومتطلباتها. وحتى يستمر بالقيادة يضطر الى أن يكون ديكتاتوراً يفرض نفسه بالقوة على الرعية. وفي النهاية لا بد وأن يسقط طال به الحكم أو قصر.
وعندما تغيب النعجة النعوق بسبب المرض أو الموت، يخلفها فوراً نعجة من وصيفاتها بالقيادة من الصف الذي يليها مباشرة، بحيث يكون لديها صفات قيادية بدرجة أقل من النعوق وباعترافها هي وإقرارها بذلك بعدم التعدي، ولكنها تفتقد الى الخبرة والممارسة، وتنوب عنها في حالة حدوث فراغ قيادي. وبمرور قليل من الوقت تجد الوصيفة قد ملأت الفراغ في وقت قصير بعد الممارسة. وفي حالة عودة النعوق تعود النائبة الوصيفة الى مكانها وتصبح قائدة مؤهلة وجاهزة للقيادة في حالة حدوث أي طاريء للقائدة. وبهذا تحافظ الأغنام على ديمومة النظام السياسي الديمقراطي، وذلك بإنتقال يسير وسهل وكفءٍ للسلطة والقيادة دون اقتتال أوخلاف أو فوضى تدب بين الصفوف. مع مراعاة الكفاءة القيادية في القائد الجديد.
كذلك فإن كل صنف من أصناف مملكة الحيوان له قيادة، كعائلة القرود والأسود على سبيل المثال لا الحصر وغيرها. والحكم في ممالك الحيوانات هو حكم مؤسساتي فيه التزامٌ وتداول للسلطة حسب الكفاءة دون محاباة. فلا يقود القطيع الاّ من كان مؤهلاً لذلك، ومن لم يكن مؤهلاً للقيادة يثور عليه ويلفظه القطيع ويطيح به. والثورة معناها مأخوذ من عالم الحيوان نسبة الى الثور في هيجانه ضد العدوان عليه.
الدرس الثاني: الرقي في تعامل الجنس المختلف (الذكر والأنثى) والعنف في تعامل الجنس الواحد المتشابه.
تتقاتل الإناث مع بعضها البعض وخاصة على الطعام، وتقتتل الذكور فيما بينها كلما تلاقت وتواجهت وفي كل الأوقات بسبب الجنس والطعام، عداوة قاسية ومستحكمة ومستديمة. وتجد المهزوم مختبئاً دائماً في مؤخرة القطيع كافاً شر المنتصر عنه، ولا يقدر أن يواجهه وجهاً لوجه، وهذا إثبات لنظريات الطبيعة في أن الأقطاب المتشابهة الشحنة (الجنس) تتنافر، والمختلفة الشحنة (الجنس) تتجاذب. وخلاف الإناث مع الإناث على الطعام أقل حدة من خلاف الذكور مع الذكور التي تختلف على الطعام وعلى الجنس معاً.
ومعاملة الذكور مع الإناث فيها رقي واحترام وحب متبادل. ويظهر ذلك جلياً وواضحاً في الطيور وخاصة العصافير البرية، أكثر من الحيوانات لأن إناث الطيور البرية لديها العدد الكافي لها من الذكور، يدفعها للإستقلالية كزوجين (ذكر وأنثى) يتزاوجان ويشتركان في بناء عش الزوجية وفي رعاية الصغار. وفي بعض أنواع الطيور كالغراب مثلاً لا تنفك عرى الزواج بين الذكر والأنثى ولا يحدث الإنفصال الاّ بموت أحدهما، وبعد ذلك من الصعوبة على الحي أن يلاقي البديل فيموت حسرة على رفيق العمر.
أما الحيوانات فإن الذكور قاسية جداً في قتالها مع بعضها البعض عند تلقيح الإناث وعند الطعام، وحتى بدون سبب، وتهلك بعضها بعضاً في قتال دموي شرس، ويحرم الذكر المنتصر خصمه الذكر المهزوم من التمتع بالجنس والطعام إن نجا منه وكتبت له الحياة، ولا ينال المهزوم شيئاً من المتعة بالجنس والطعام الا بالسرقة في غياب عن عيون المنتصر، هذا بالإضافة الى أن الإنسان يستهلك الذكور بذبحها من أجل طعامه، ويترك للقطيع ذكراً واحداً لتلقيح العديد من الإناث من أجل تكاثرها.
ملاحظة:
إن تشبيه الإنسان المجرم القاتل بالوحش أو الحيوان فيه تجنِّ واضح وإعتداءٍ صارخٍ على حقوق الحيوان، فإن قتل الحيوان فهو يقتل لكي يأكل ويعيش، وهو بذلك منسجم مع فطرته ومع قسمتة من الرزق على الأرض، ولا يخالف شريعة الغاب التي تحكم العلاقة بينه وبين باقي المخلوقات لحفظ توازن الكون. أما الإنسان القاتل فهو مخالف لفطرته ولشريعته وأشد قسوة من الحيوان المفترس. لذلك نظلم الحيوان إن شبهنا به بالإنسان القاتل/المجرم.
يتبع الجزء الثاني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت