إن شعبا يبتدع أساليب نضاله في وجه غطرسة وفاشية جلاديه، لا يمكن كسره، ولا يمكن لأحد أن ينال من عزيمته وصموده وإصراره من اجل بلوغ حريته واستقلاله الوطني، وبرغم ما اعترى مسيرة شعبنا الخالدة من مطبات وتراجع في عديد الأحيان، إلا أن إرادة شعبنا كانت وما زالت المعين الذي لا ينضب تضحية وعطاء، وبقيت تلك المعارك الكفاحية الساطعة، زاده وزواده عندما كانت تضيق أمامه سبل الاستمرار والتواصل .
اجل هو شعبنا الفلسطيني المكافح الذي فجر ثوراته الأولى منذ عشرينات القرن المنصرم وحتى تاريخنا هذا، أجيال تورث أجيال الكثير من القصص والحكايات التي امتزجت بالدم والمعاناة، والتي حفرت في جدار الزمن معالم خالدة، وعلى جبين الشمس إشراقة لا يمكن أن تغيب مهما أغتصب التاريخ، ومهما حاول البعض تزوير الوقائع واختزال الزمن، فذاكرة الشعب لا تنسى، ولا يمكنها أن تنسى .
في نوفمبر من العام 1998م انطلق رواد الكفاح الوطني من محافظة رفح باتجاه منطقة "ميراج" حيث احد جيوبها المسماة " ام القريص" – سميت بهذا الاسم لكثرة انتشار نبتة القريص البرية المكسوة بالأشواك فيها - كانوا يمتشقون إرادة النضال والتحدي للتصدي لحملة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي هناك، انطلقوا حاملين خيامهم وكل احتياجاتهم ليقيموا قريتهم الخاصة فوق الأراضي المستهدفة من قبل الإسرائيليين، شاركوا بهمة ووحدة منقطعة النظير، لم تميزهم انتماءاتهم إن كانوا أبناء لقوى وطنية او اسلامية، وحدة واحدة في وجه عدو واحد، وأمام سلاح مجرم لا يفرق بين اصفر او احمر، ولا أخضر او اسود، فالجميع مستهدفون أمام رصاص المستوطنين وبشاعة قمع حماتهم، كانت راية فلسطين تجمعهم لينصهروا في حب الوطن على حساب كل الولاءات الضيقة، وكانت روح التنافس والإبداع الميداني تشكل هاجسهم اليومي، يقتاتون من صحن واحد، ويلتحفون برد الليل على حصيرة واحدة ، كان جُل اهتمامهم أن يكسروا شوكة الاحتلال الإسرائيلي، وان ينتصروا في معركتهم بأقل الخسائر الممكنة، وأن يفدوا أرضهم بأرواحهم إذا ما تطلب الأمر ذلك .
آلاف القصص المشرقة التي اختزنتها خمسة واربعين يوما من الصمود فوق هذه البقعة، شارك وتناوب فيها الجميع ليل نهار، ليبقى نبض الحياة متواصل فيها، ولكي تبقى قريتهم سدا منيعا في وجه هجوم المستوطنين الذين حاولوا اقتحامها مرارا لكنهم فشلوا، كما فشلوا في إرهاب وترويع الصامدين فيها.
في احد الأيام وبعدما حاول المستوطنون إرهاب المعتصمين ليلا ولم يفلحوا في ذلك، قررنا أن نرد عليهم بهجوم معاكس صبيحة اليوم الثاني، تحرير المناطق التي سبق مصادرتها بزراعة آلاف أشجار الزيتون، حيث جرت مواجهات أسفرت عن استشهاد احد المناضلين، وإصابة العشرات، كانت رسالة غضب تؤكد ثباتنا على مواقفنا، وبان إرهابهم سُيقابل بمزيد من التصعيد والصمود .
خمسة وأربعين يوما والقرية صامدة، لترسم علامة نصر وعز وفخار في سجل شعبنا، ولتلوح بعلامة نصر في وجه أبراج القنص الإسرائيلية التي كانت تترصد كل حركة في محيط الخيام، ولأنها كذلك، استطاعت أن تشكل مركز جذب وتضامن لكافة قطاعات شعبنا من كافة المحافظات والمواقع، فقد آمها الآلاف من أبناء شعبنا تعبيرا عن دعمهم وصمودهم، وتثمينا لهذه الاشراقة الباسلة، حتى أن السلطة الوطنية الفلسطينية لم تستطع إلا أن تكون داعمة لهذه الفعالية برغم الضغط الإسرائيلي من اجل تدمير الخيام وفض التجمع الفلسطيني من المنطقة .
مضى أربعة عشر عاما على تلك التجربة الخالدة، وفي هذه الأيام تُحاكيها تجارب جديدة، ففي باب الشمس أقاموا قريتهم، وكذلك في باب الكرامة، من اجل أن تشرق شمسنا على ربوع الوطن، ومن اجل الحفاظ على ما تبقى من كرامة هذا الشعب بعد أن مزقه سوط الانقسام الأسود .. هي رسالة متواصلة بان شعبنا ماضى في مقاومته الشعبية بكافة الوسائل حتى يحقق هدفه الوطني برحيل المحتلين وكذلك قطعان مستوطنيه، هي نضالات ستتواصل لتقول بان رسالتنا ستبقى دوما وأبدا وحدوية التوجه، ووطنية المضمون، وواقعية الفعل . ولتقول لكل من يصدق المقاومة الشعبية قولا وفعلا، أننا بحاجة لإستراتيجية وطنية ترعى وتطور هذه المبادرات، والاهم أن تُقطف ثمارها سياسيا كي لا تبقى موسمية، او كأنها قفزة في الهواء .
غزة – 22/1/2013م
عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت