مصر التي في خاطري

بقلم: أسامه الفرا

حواديت ...
مصر التي في خاطري
أشياء كثيرة تغيرت في القاهرة، لا يتعلق الأمر بنظام الحكم وتوابعه، بل بتفاصيل الحياة المتعددة، لم تعد القاهرة كما كانت عليه، مبتسمة تبحث بين مفردات اللغة عما يخفف عن كاهلها من وطأة الظروف، غابت الابتسامة عنها وتسلل القلق خلسة إلى وجهها، فتبدلت معالمه بفعل وقع الحاضر والخوف من المستقبل، لم تعد تلك المدينة الآمنة التي يختلط ليلها بنهارها، ولم تعد شوارعها قادرة على الحفاظ على حيويتها ورشاقتها رغم ما كان بأهلها من هموم وشجون، هرمت على عجل وهي تصارع ذاتها، فتكشفت تجاعيد وجهها وأثقلت كاهلها أعباء أجبرتها على التثاقل في سيرها، وسيطر عليها التوجس من الآخر، فباتت ترتعش من الأيام والأحداث الكبيرة منها والصغيرة.
القاهرة تلك المدينة التي عاشت في كنف من الأمان على مدار عقود، ليس بفعل قدرة أجهزتها الأمنية، بقدر ما هي هبة من الخالق لها، تبخر ذلك بين ليلة وضحاها، وبات الخوف يرتع في أزقتها حتى المزدحمة منها، فبات سكون ليلها يحل على عجل، ونهارها ليس بأفضل حال من ليلها، قد لا تكتشف بنظرك سوى الشيء القليل لما يدور بها، وقد يفصح الإعلام عن المزيد منه، ولكن الكثير منه يتوه في زحمة الأحداث، وينكفئ على ذاته على قاعدة من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته، قد يكون الأمن هو التحدي الأكبر الذي يواجه مصر حالياً، خاصة بعد أن تراجعت هيبة الدولة، والتقطت شريحة من المجتمع المصري فرصتها كي ترتع فيها طولاً وعرضاً دون ضابط، ووفر الانشطار المجتمعي بيئة خصبة لها، وعودة الأمن لشوارعها من الصعوبة بمكان أن تأتي به قواها الأمنية، بل هي بحاجة أولاً لأن تتصالح مع ذاتها، وتتوقف حالة الاشتباك بين قواها، حالة الاشتباك التي لم تعد حكراً على قواها السياسية بل توسعت دائرتها لتقتحمها "ألتراس" الأندية الرياضية، ومن قبلهم نزعات طائفية وجهوية بحجم التاريخ والجغرافيا.
في السابق كان الاختلاف بين المصريين يصل أقصى مداه بعبارات يطلقها المتخاصمان، بفطنة الرد التي تثير الإعجاب، العنف الجسدي ليس له محل مهما تطاولت قامة التعدي اللفظي، عادة ما ترى في خصامهم مساحة تتداخل فيها الكوميديا بين مفردات الكلام، يخبو معها لهيب الخصام، لا يلبث أن يذهب كل إلى حال سبيله حاملاً معه بعض الكلمات تصلح للاستخدام في جولة أخرى بمكان آخر، اليوم لم يعد المشهد على حاله السابق، تراجع فيه اللسان وتقدمت اليد تفصح عن مكنوناتها، لتحيله إلى مشهد تراجيدي من أفلام "الآكشن".
نعم تغير حال مصر وهي تتوجع وتئن من جروحها، ويعتقد البعض أنها العجز سينال منها وسيدفعها ذلك رغماً عن أنفها للتخلي عن مكانتها، لكن إرث مصر التاريخي والحضاري والثقافي ليس للتمليك أو الإيجار، وسيكتشف هؤلاء عاجلاً أم آجلاً أن بمقدورها أن تتعافى، وأن تنهض على قدميها من جديد وتسلخ عنها جلدها كي تعيد نضارتها وإشراقها مرة أخرى.
نعم تتألم مصر ويتألم معها الناطقون بلغة الضاد، ويفرح بحالها من أعجبته لغة الفرنجة وتصور أن "خيال الحقل" يمكن له أن يرث مكانتها، لكنه سيعود أدراجه بخفي حنين يوم أن يبتلع النيل أضغاث أحلامه، وتنهض مؤسسات الدولة لتدافع عن إرثها التاريخي، وهذا هو الفارق بين دولة بمواصفات شقة للتمليك ودولة كتبت فصولها على صفحات التاريخ، لذلك تبقى مصر في خاطر الأمة وفي دمها، نعم ما أصابها من علل يضعف قواها، لكنها قادرة على أن تتعافى وتمتشق قوامها وتأخذ مكانتها التي نعرفها لها وليست لسواها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت