جورج حبش في ذكراه الخامسة

بقلم: هيلدا حبش


نتذكره في السنة الخامسة لغيابه. الحكيم حاضر دائماً وأبداً في ذاكرتنا وذاكرة شعبه ووجدانه من خلال ما تركه لنا وللاجيال القادمة من تاريخ مشرق وإرث نضالي ومخزون لا ينضب من التجارب والخبرات في العمل الثوري الوطني التحرري، الذي امتد أكثر من ستين عاما من التضحيات والنضال الدؤوب والعطاء اللامحدود.

في مثل هذه المناسبة الحزينة استذكر خمسين عاماً قضيتها الى جانب الحكيم في مسيرته النضالية الشاقة. استذكر المرحلة العظيمة من حياتنا المشتركة بكل فخر واعتزاز لصمودنا بكل شموخ وعزة وقوة في مواجهة التحديات والتجارب الصعبة والمعقدة بكل ما تخللها من انتصارات وإخفاقات ودروس وعبر. لم تكن حياتنا مفروشة بالورود، ولم نكن نعيش في برج عاجي بعيداً عن هموم شعبنا وثورتنا، بل كانت حياتنا محفوفة بكثير من المخاطر والمنعطفات والتضاريس الوعرة، لكنها كانت مفعمة بالامل والايمان والتحدي والتصميم على مواصلة الكفاح الى جانب شعب قرر أن يدفع الغالي والنفيس في سبيل استعادة حريته وكرامته وأرضه المغتصبة من براثن العدو الصهيوني الذي حرمه من حقه بالحياة الحرة الكريمة.

ربط الحكيم مصيره بمصير شعبه وكرس حياته ليتفرغ للنضال الوطني والعمل الدؤوب من أجل تحرير الارض وتحرير الانسان. كان قومياً عربياً حتى النخاع، واندفع لتأسيس حركة القوميين العرب في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي واستقطب خيرة الشباب القومي العربي المثقف من كل الاقطار العربية. فانطلقت نواتها من لبنان وسوريا والاردن مروراَ بغالبية دول الخليج العربي وخاصة اليمن، الكويت، البحرين وحتى عُمان ومصر والسودان وانتهاء بالمغرب العربي. لتخرج القضية من إطارها الفلسطيني الضيق الى فضاء ارحب ولتصبح فلسطين قضية العرب الاولى واسترجاعها مهمة العرب جميعا.

كانت مرحلة صعبة وقاسية تحتاج الى الكثير من التضحيات الجسيمة، إذ تبدأ بأنكار الذات وبكل ما هو شخصي بعيداً عن التمسك بالامتيازات والمكتسبات والحياة الروتينية التي يعيشها السواد الاعظم من الناس، وتنتهي هذه التضحيات إما بالاختفاء والعمل السري تحت الارض والتعرض للملاحقة الامنية من قبل القوى المعادية في ظروف قاسية تنعكس على حياته وعلى أسرته وتمس الاساسيات في حياتهم الخاصة، وإما أن يقبع في غياهب سجون الأنظمة العربية بكل ما تعرف به من وحشية وقسوة وانتهاكات لأبسط حقوق الانسان حيث كان الداخل مفقود والخارج مولود. كانت تلك مرحلة من النقاء الثوري، ولن تتكرر.

عندما ارتبط أسمي بالحيكم واخترت العيش معه بكل تلاوين المشهد السياسي في تلك المرحلة من عمرنا، كنت أدرك اني ارتبطت بالطبيب الانسان الثائر. عاش من أجل شعبه وقضيته العادلة التي وهبها عمره وعصارة فكره وكرس حياته ليرفع الظلم والاضطهاد عنه . اخترت أن أكون على قدر هذه المسؤولية رفيقة درب للحكيم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، ليقع على عاتقي الكثير من المهمات الشاقة ومواجهة الكثير من التحديات، ولأكون بالتالي على مستوى الرجل وعلى مستوى تضحيات جماهيرنا ومصدر ثقة الحكيم وفخره واعتزازه. هذه قيمة معنوية تغنيني عن كل ما افتقدناه من ملذات الحياة ورغد العيش، قيمة تعوضني العمر الذي التهمته التجارب والأحداث المريرة التي عشناها معاً بكل عقدها وصعابها.

كان الحكيم نموذجاً نادراً من القادة الكبار الذين يطبقون الديموقراطية قولاً وفعلاً لتصبح نهجاً في حياته اليومية وتعامله مع كل من حوله بكل تواضع، بعيداً من التعالي واستغلال المناصب. عمل جاهداً على تطبيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص داخل صفوف «الجبهة الشعبية»، وعاش بين الرفاق ليتقاسم معهم لقمة العيش وقت الازمات، وقلبه الكبير كان يتسع للجميع بكل تناقضاتهم.

كي يعيش المرء الى جانب هذا الانسان الكبير، عليه أن يعلن حالة الطوارئ والاستنفار الدائم ويُبقي اليد على الزناد تحسباً لاي طارئ، وأن يعيش واطفاله حالة من اليقظة وعدم الاستقرار والتنقل الدائم وتغيير أماكن الاقامة باستمرار واستعمال جوازات سفر بجنسيات متعددة وأسماء مستعارة حتى يكاد المرء أن ينسى أسمه الحقيقي، كل ذلك تحسبا من أية ملاحقات أمنية محتملة ومحاولات اختطاف أو اغتيال ليصبح خبيراً أمنياً بامتياز. كنت دائماً معه والى جانبه في قلب الاحداث الساخنة والمصيرية حتى أتمكن من الاشراف المباشر على أمنه وسلامته.

أما اليوم وفي هذه الظروف العصيبة، تعيش الشعوب العربية مخاضاً عسيراً في صراعها مع الظلم والطغيان والاستبداد والفساد. شعوب تتوق الى الحرية والديموقراطية والكرامة الانسانية وتحقيق العدالة والمساواة والتعددية السياسية، مطالب محقة بدأت بتظاهرات سلمية جوبهت بحملة شرسة من القمع والقتل والتدمير. وجد الشعب السوري نفسه أمام ترسانة من الاسلحة الفتاكة وسط آتون من النار كان يعتقد أنها معدة لتدمير الكيان الصهيوني واذ بها تنهمر حمماً فوق المنازل الآمنة تجرف الحجر والبشر دون تمييز بين مدني وعسكري وبين أطفال ونساء وثوار. دماء غزيرة سالت كالشلال الهادر وجرفت شبابا بعمر الورود كانوا يحلمون بمستقبل مشرق وبوطن ينعم فيه المواطن بكامل حقوقه المدنية والسياسية و بالعيش الكريم. إن ما يجري في سوريا اليوم لا يمكن تقبله أو تبريره ولا تحت أي ظرف. أتساءل بمرارة: لماذا وصلت الامور الى حد الانفجار دون وازع ولا رادع؟ لماذا سوريا بالذات؟ كنا نعتقد انها قلعة حصينة لا يمكن اختراقها. لماذا لم يتم العمل منذ البداية إلى احتواء الازمة واستيعاب المطالب الشعبية قبل الانزلاق نحو الهاوية؟ ألف لماذا ومن المسؤول عن هول المأساة وأي ضمير هذا الذي يستطيع أن يتحمل ثقل هذه الاحداث والجرائم التي ترتكب بحق الشعب السوري وبحق الابرياء وبحق سوريا الوطن وبحق الفلسطينيين في المخيمات. إن شعب سوريا لم يكن يوما طائفيا ولا مذهبيا، ولا مكان في بنيته أو تكوينه للتطرف الديني أو التمييز على أساس طائفي أو عرقي أو مذهبي، بل كانت سوريا دائما مثالأ للتعايش السلمي المشترك بين الطوائف والأديان المختلفة.

أما فلسطين جوهر القضية وقلب الصراع العربي الاسرائيلي ما زال جرحها ينزف، جدار عازل، أراضٍٍ تصادر وبيوت تدمر وشعب يُقتل ويُذل على الحواجز الاسرائيلية. مواجهات يومية يدفع شعبنا ثمنها من دمه. معاناة لا مثيل لها، لكنه يقاوم الجبروت الصهيوني بالعصي والحجارة والارادة الصلبة. أحيّي الشباب والشابات الذين بادروا إلى إقامة قرية باب الشمس وأبدعوا في ابتكار أساليب جديدة وخلاّقة في النضال وتعرضوا للقمع والاعتقال في سبيل التصدي للاستيطان ومصادرة الأرض. كما أحييّ أبطالنا الأسرى الذين يخوضون معركة الامعاء الخاوية ببسالة أسطورية وعلى رأسهم الأسير البطل سامر العيساوي ليثبتوا للعدو أن الضحية أقوى من الجلاد. كل ذلك دون أن توفر لهم القيادة الفلسطينية أية حصانة أو حماية، لكنها تبقى حريصة على الالتزام بالاتفاقيات الامنية المُذلة التي وقعتها في اوسلو مع الكيان الصهيوني قبل عشرين عاماً والتي تنص بعض بنودها على حماية أمن أسرائيل ضاربة عرض الحائط بكل الثوابت الوطنية التي دفع شعبنا آلاف الشهداء في سبيل تحقيقها وخاصة حق العودة لملايين الفلسطينيين الذين ما زالوا يعيشون في المنافي والشتات، حقهم في العودة الى صفد بلد القائد د.وديع حداد. والى اللد مسقط رأس الحكيم والى حيفا ويافا والقدس والى كل مدينة وقرية فلسطينية ولد فيها احرار فلسطين.

هيلدا حبش

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت