الوضع العربي إلى المجهول

بقلم: محمد السودي


هي النعمة التي تجلب النقمة ، حال المنطقة العربية الغنيّة بالثروات الطبيعية بعد أن استمرت الدول الكبرى النافذة وضع المنطقة ضمن دائرة الإسـتهداف المباشر بعد أفول حقبة الإستعمار القديم ، حيث رسمت القوى الرأسمالية النافذة مخططات استراتيجية مبكّرة بديلة الغرض منها استمرار السيطرة على منابع النفط إضافة إلى تأمين الممرات المائية التجارية للحفاظ على مصالحها الحيوية ، لكنّها لم تنجح في ذلك الوقت بفعل حركة النهوض القومي بداية خمسينات القرن الماضي الذي خلق حالةً من العداء العارم للنوايا الإستعمارية الحديثة وصلت ذروتها بعد العدوان الثلاثي على مصر الثورة الوليدة إثر قرار تأميم قناة السويس ، بالإضافة إلى وعي المخاطر الناجمـة عن دور كيان الإحتلال الإسرائيلي على مسـتقبل القضايا العربية ، مما جعلها تعيد النظر بأساليبها القديمة من خلال العمل الدؤوب بكافة السبل للقضاء على ظاهرة القوى الوحدوية الصاعدة مقدمة لانحسـارها والتقوقع خلف جدران القطرية الضيّـقة الأمر الذي سهّل عليها الإستفراد بكل دولة على حده ، ثم جاءت نتائج هزيمة حزيران وحرب تشرين التحريكية كي تشكل بداية التفكك العـربي على خلفية المشاريع السياسية التي توجّت باتفاقية كامب ديفد الأولى وملحقاتها الخاصة بمنح الحكم الذاتي للأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها عام1967 كان من ارهاصاتها طرد مصر من الجامعة العربية ونقل مقرها إلى تونس.
ما حدث للعراق قبل عشر سنوات على الغزو الأمريكي وثلاثٍ وعشرين عاماً من بدء الأزمة ،لم يكن منعزلاً عن السياقات العامة لإعادة صياغة المنطقة نتيجة هيمنة الولايات المتحدة على القرار الدولي وانهيار منظومة الدول الإشتراكية وتفكيك الإتحاد السوفياتي السابق إلى مجموعة دول مستقلةٍ، حيث تمكنت الإدارة الأمريكية من تأجيج بؤر الصراع في المنطقة العربية من خلال استخدام نفوذها القوي لتخفيض اسعار النفط إلى أدنى مستوياته على الإطلاق بما يوازي سعر الكلفة أو دونها الأمر الذي أثار حفيظة العراق بكونه تصرف عدواني يستهدفه بشكل مباشريمثل قطعاً للأعناق ، بينما سعت امريكا سراً استدراج العراق نحو فخٍ منصوب يدفع باتجاه احتلال دولة الكويت بعد تلقيه إشارات امريكية مفادها عدم التدخل بالصراعات العربية كانت له تداعياته المعدّة سلفا على الصعيدين العربي والدولي ، حيث سيّرت اساطيلها باتجاه المنطقــة وتحشـيد أكثر من ثلاثين دولةٍ معظمها من الدول العربية أدّت إلى حرب مدّمرة مدفوعة التكاليف استنزافاً للمقدرات العربية ،خرج على أثرها العراق من الكويت لتبدأ صفحة تمرد جديدة أسقطت معظم المحافظات العراقية بأيدي القوى النائمة المدعومة خارجياً غير أن قوات النخبة في الجيش العراقي استطاعت إخماد التمرد واستعادت السيطرة على مجريات الأمور بالرغم من الحصار المطبق الذي دام ثلاثة عشر عاما دون انفراجٍ للأزمة الماثلة بأشكال متعددةٍ إلى يومناهذا.
إن أحداث ابراج نيويورك شكّلت الشرارة الأولى لانطلاق المشروع الأمريكي الجديد حيث بدا جلياً أن غزو افغانستان واسقاط حكم طالبان تحت ذريعة محاربة الإرهاب الذي لم يتم تعريفه حتى الأن لغرض الخلط المقصود بين حقّ المقاومة المشروعة الذي كفلته كافة المواثيق والقوانين الدولية للشعوب الواقعة تحت نير الإحتلال وبين الجريمة المنظمة بما فيها إرهاب الدول لاستخدامها فزّاعة وقت ماتشاء ، ومع ذلك أرادت الإدارة الأمريكية استعادة هيبتها المجروحة ووضع العالم أمام حالة جديدة تستند إلى نظرية المحافظين الجدد الذي عبّر عنها الرئيس بوش الإبن بقوله "من ليس معنا فهو ضدنا" بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين وصف حربه على الإرهاب "بالحرب الصليبية" في دلالة واضحة للحملات الصليبية على الشرق، لكنها اعتبرت فيما بعد مجرد زلة لسان نظراً للإستياء الدولي من هذه التصريحات الخرقاء .
لقد استهدف العراق لما يمثّلة من مكانةٍ جيواستراتيجية إذ يمتلك عناصر مقومات الدولة القوية الحديثة لهذا كان لابد من اختلاق ذرائع حصوله على اسلحة الدمار الشامل وعلاقته المزعومة بتنظيم القاعدة ، أثبتت الوقائع فيما بعد بطلانها لا أساس لها من الصحة ولم تكن سوى أكاذيب وتلفيقات لتبرير عملية الغزو كبداية للسيطرة على بقية الدول الأخرى بما فيها الدول التي تحالفت معها ، إن الأخطاء الجسيمة التي وقعت بها القوات الأمريكية نتيجة جهل الخصائص الوطنية للشعوب جعلها تغرق بأوحال المنطقة إذ توقعت أن يتم استقبال جنودها الفاتحين بالورود كما حصل خلال الأيام الأولى لغزوها العاصمة العراقية ، لكنّها سرعان ما تلاشت أوهامها أمام ضربات المقاومة العراقية الموجعة كانت النتيجة الهروب إلى حيت أتت بدل نشر القيم الديمقراطية الأمريكية ، وجلب الرخاء والإزدهار للمجتمع العراقي حيث لازال تحت وطأة انقطاع الكهرباء والماء وفقدان كاملٍ للبنى التحتية وجعلها دولةً فاشلةً غير أمنة على الإطلاق حتى أنها تندرج في ذيل قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم حسب المعايير الدولية، وبالتالي أطاحت مغامرة المحافظين الجدد بهم نتيجة الكلفة الباهضة للحرب ةالخسائر الشرية الفادحة بين صفوف القوات الأمريكية المعلنة ، التي تشكل الجزء اليسير من الخسائر الحقيقية التي طالت الكثير ممن تعاقدوا مع البنتاغون الذين يقدمون الخدمات اللوجستية ولا يعلن عنهم في حال حصول الوفاة وفقا للعقد الموقع معهم وغالبيتهم من الذين ينتظرون الحصول على الجنسية الأمريكية أو الباحثين عن تحسين فرص عيشهم في مواجهة الأعباء الحياتية ، الأمر الذي أدى إلى تغيير الإستراتيجية الأمريكية حيث أضحت اعادة الجنود إلى موطنهم قضية رأي عام ضاغط أدت إلى فوز الحزب الديمقراطي بالانتخابات الرئاسية الأولى الذي وضع على سلم أولوياته الإنسحاب من العراق وإغلاق معتقل "غوانتا نامو" بالإضافة إلى جدولة الانسحاب من أفغانستان بحلول العام القادم ، لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال تخلي الإدارة الأمريكية عن مصالحها الحيوية في المنطقة حيث لازالت أساطيلها ترابط قبالة الخليج العربي إضافة إلى تواجد قواعد رئيسة في قطر والبحرين ، كما أن المتغيرات الجارية في المنطقة وصعود قوى محلية حرفت مسارالثورات الشعبية عن أهدافها وترتبط مصالحها مع الولايات المتحدة مقابل ضمان استمرارها في الحكم بغض النظر عن أيدلوجيات هذه القوى فتح الباب على مصراعية أمام تدخلها عن بعد بما يخدم تطلعاتها وضمان امن إسرائيل والإلتزام بالإتفاقيات الموقعة معها بعد أن تخلت عن حلفاءها السابقين الذين حولوا حياة شعوبهم جحيم لايطاق دون أن يرفّ لها جفن .
إن الوضع العربي الراهن بعد مرور عامين على الثورات يؤكد بما لايدع مجالاً للشك بأنه يتجه نحو المجهول نتيجة شهوة السلطة والتفرد بالقرار لدى الإخوان المسلمين الذين سرعان ماتبينت نواياهم على حساب الغالبية العظمى من الناس الذين تزداد أوضاعهم سوءا على سوء الأمر الذي يجعل من الساحات والميادين مكاناً للتعبير عن خيبة الأمل حتى يحصل التغيير الحقيقي النابع من الإرادة الشعبية وتستعيد الأمة مكانتها التي تستحقها بين الأمم الأخرى.......
كاتب سياسي

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت