في أتون ثورة التكنولوجيا والإتصالات والعولمة التي تجتاح العالم، وفي ظل متطلبات أعباء الحياة التي تتثاقل يوماً بعد يوم، يشهد عالمنا العربي حملة لتغريب أجياله الشابة من (جراء) الضغط الإقتصادي الهائل الذي تعانيه شعوبنا في أوطاننا العربية على الرغم من إكتنازها بالخيرات والموارد الطبيعية والترب الزراعية والقوى العاملة والقوى الفكرية، وتجد هذه الحملة الشرسة تجاوباً وذلك لمقابلة متطلبات الحياة في هذا العصر وأحماله الباهظة، وحيث أن لغة العلم ما زالت على الأغلب هي اللغة الإنجليزية، ومن بعدها الفرنسية وستلحق بها الصينية، أصبحت تلك اللغات متطلباً ضرورياً لنيل فرصة عمل وسط هذا الزخم والكم الهائل من الخريجين العرب العاطلين عن العمل، وذلك في ظلال تفضيل الخريجين من الجامعات الأجنبية بغض النظر عن مستوى تحصيلهم وتقديرهم الجامعي على غيرهم من الجامعات العربية من المتفوقين نظراً لضعف المناهج العربية، وعدم تحديثها ومواكبتها لمسيرة العلم المتسارعة، وضعف الخريجين المحليين في اللغة الإنجليزية كتابة وبالأخص تحدثاً، ولأن معظم أصحاب العمل التقني والتجاري يمنحون الوظائف لمن إغترب ويجيد اللغة الإنجليزية تحدثاً فقط على الرغم من تميز خريجي الجامعات العربية ذهنياً، لذلك إتجه أولياء الأمور الى الزج بأبنائهم في المدارس الأجنبيىة التي تدرس المنهاج الإنجليزي أو الأمريكي. وذلك على حساب الثقافة واللغة العربيتين وهنا تكمن المصيبة والمشكلة والطامة الكبرى. ولكن لماذا؟
إن المدارس العالمية التي تدرس المناهج الأجنبية في بلادنا تدرسها على الطريقة الكلاسيكية التي تعتمد على التلقين دون التطبيق العملي، كما أن غالبية هذه المدارس تنطلق من منظور الإستثمار التجاري وليس المنظور العلمي التقني والتطبيقي، مع التركيز على الكم بغض النظر عن الكيف، فيتخرج الطالب بخفي حنين، دون نيل إحدى الحسنين، ومن هذه المدارس ما له مهمات تبشيرية باطنية لا يشعر بها المجتمع، ولا يدرك خطورتها الا بالمستقبل، وهي أدلجة أفكار الطلبة بأفكار وثقافات غربية وذلك بجاذبية الحوافز المغرية من منتجات العولمة ومظاهرها دون الخوض في أساسياتها ومفاهيمها العلمية، ليمسح من أذهانهم الفكر والثقافة والقيم العربية والإسلامية، مما يحدث لدى النشأ ثورة على الذات والواقع، ويوقعهم بتناقض فكري وعقدي وسلوكي، ويرسخ بأذهانهم أفضلية الأمم الأخرى على أمتهم. وبالتالي يفتنون يالحضارة والثقافة الغربية، وينجذبون اليها، ويرتدون على أصولهم وجذورهم، فيسهل إختراقهم واستقطابهم لصالح المشاريع التغريبية الإنفصامية لتفتيت فكر الأمة وتلويث ثقافتها ونسيان حضارتها. مما يؤدي الى شرذمتها وإنقسامها طولياً، وأن منتجات العولمة فيها من المغريات والمشهيات للنشأ العربي ما هو كفيل بعشقهم لها وافتتانهم بها،ونسيان تاريخهم وتراثهم وقيمهم وحضارتهم وحتى لغتهم الأم، فيغرمون بها وربما تصل الحالة بهم الى حد الإقتناع التام بها بديلاً لما توارثته الأجيال عن الأسلاف من ثقافة وفكر وقيم وأخلاق. ويحدث في نفوسهم تنافراً مع القيم والثقافة السائدتين، فيتم تغريب اللغة والفكر والقيم وتغريب الخلف عن السلف بما يتناسب مع مخططات الطامعين بخيرات الأمة للإستيلاء عليها. كما أن غياب التصنيع والإنتاج من الاقتصادات العربية يؤدي الى غياب معامل البحث العلمي التطبيقي عن المدارس والمعاهد والجامعات العربية ويحد من طموح الشباب نحو الإبداع الفكري والعلمي، ويؤدي الى عزوف العقول العربية التي لا تجد لها مكاناً في العالم العربي يناسب طموحاتها فتسلك خيار التغريب مكرهة حيث يرحب بها ويغدق عليها بالتسهيلات ويوفر لها رغد العيش. وهذا ما يفتقدونه في أوطانهم.
من هنا انتشرت وتفشت البطالة بين الخريجين الذين لا يستطيعون تصريف ما اكتسبوه من علوم في حياتهم العملية والمهنية، ويحدث الفراغ الزمني في حياة النشأ، فيضطرون لملأ الفكر والعقل الخاليين والمعطلين بالجدل الأكاديمي العقيم، ومنهم من أبناء الأثرياء من يتلهون بمنتجات العولمة التي تمدهم بالثقافة والقيم الغربية على حساب ثقافتهم وقيمهم، وينسون تنمية عقولهم وأصالة ثقافتهم، ويرفضون واقعهم المتخلف عن باقي الأمم، وينخرطون في تيارات الغزو الثقافي للأمة كمعاول هدم، ومنهم من أبناء الفقراء والمحرومين وهم الغالبية من يملؤون فراغهم بالأيدلوجيات العقدية الدينية والفكرية والفلسفية، فينشأ الصراع والإقتتال الذاتي بينهم، وتستمر الأمة في غيبوبة وتخضع للهيمنة الأجنبية على أوطانها ومواطنيها، وتظل سوقاً استهلاكيا للمنتجات الأجنبية، مما يهدر ثرواتها في غير الصالح العام للأمة، لتصب في صالح رفاهية المجتمعات الناهضة علمياً وتقنياً على حساب فقرنا وجوعنا وجهلنا، ويحدث في الأوطان العربية علو في البنيان والعمران لإمتصاص مداخيل الأمة على حجارة صماء وذلك على حساب تنمية الإنسان. فالحروب العربية العربية والعربية الأجنبية تهدم في البنيان والبنى التحتية بلا هوادة ولا رحمة. وبعد صحوة ما قبل الموت يعاد بناؤها من جديد بأيد غير عربية وبأموال عربية مهدرة، وتظل الأوطان تدور في حلقة مفرغة في عملية إهدار للمداخيل والطاقات لتحقيق خطوات سريعة للوراء بعكس الأمم. ويظل الإنسان العربي أسيراً مقيداً في وطنه، وحريته مغتصبة وإرادته مسلوبة، وقراره السياسي والإقتصادي وحتى الإجتمتاعي مرهوناً للإرادة الأجنبية. فتزداد مشاكل الأمة، وتغرق في الضياع والتقسيم والشرذمة. فماذا نتوقع من نشأ عربي فتح عيونه على تناقضات وصراعات ذاتية، وعلى أشلاء عربية تتناثر هنا وهناك بأيد عربية في أتون صراعات ذاتية.
لقد ذكرني هذا الحال للنشأ العربي وما يعيشه من تناقضات وصراعات بقصة أخطر جاسوستين عربيتين عملتا لصالح الدولة الصهيونية ضد وطنيهما العربيين المسلمين، فتاتان فتنتا بالحضارة الغربية وما فيها من حريات بلا حدود تتنافى مع القيم والأخلاق العربية والإسلامية. ولم تسلكا هذا الطريق الهدام للأمة عن حاجة للمال أو بحثاً عن بحبوحة عيش، فكلاهما من الطبقة البرجوازية الثرية، تطوعتا لخدمة العدو مجاناً، فإحداهما وهي (أمينة المفتي) كانت باحثة عن الحب الذي ضاع منها في بلدها، وثائرة على تقاليد أهلها الذين نذروها لإبن عمها الذي يكاد يقترب من عمر والدها وذلك على ذمتها في مذكراتها، فقررت البحث عن الحب والحرية المطلقة في النمسا مع طيار يهودي صهيوني، وغيرت ديانتها لتتزوجه على الرغم من أنها باعت جسدها له مدة خمس سنوات قبل عقد الزواج في الكنيس اليهودي بالنمسا، ولما فقد في حرب 1973 م على الجبهة السورية حسب رواية العدو المشكوك فيها، قررت الإنتقام له من شعبها ومن بني جلدتها، فتطوعت للتجسس على المقاومة الفلسطينية في لبنان لصالح اسرائيل، وفي سبيل ذلك باعت جسدها لكل من مدها بمعلومة عن المقاومة والمقاومين تفيد بها دولة الكيان الصهيوني. وقدمت لإسرائيل خدمات لا تقدر بثمن.
والفتاة الثانية (هبة سليم عامر) صاحبة فيلم الصعود الى الهاوية، لتي كرهت القيم العربية والإسلامية ، وكرهت أهلها ووطنها لتخلفه وهزيمته في حرب 1967م، وسافرت الى فرنسا بحثاً عن الحرية المطلقة التي تفتقدها في بلادها أو التي كانت تعاقب عليها إن انتهكتها، وتأدلج فكرها على يد ضباط الموساد بنظرية عدم قدرة العرب على هزيمة اسرائيل، وتطوعت من منطلق هذا الفكر الدخيل لخدمة عدو بلدها مجاناً، وكانت ترفض المكافآت التي تقدم لها من الموساد، ووصل بها الحال أن باعت جسدها لضابط مصري كان يعمل مديراً لمكتب قائد عسكري مرموق، فضعف أمام عشقه لها وجندته للعمل معها لصالح اسرائيل، في حين أنها كانت تكرهه وترفضه زوجاً لها، فوافقت على خطبته لها من أجل عيون الأعداء، ومدها مقابل ليلة حمراء قضاها معها بمعلومات عسكرية سرية تسببت في خسائر فادحة بالعتاد والأرواح من الجيش المصري وقالت غولدامئير عنها أنها قدمت خدمات لإسرائيل أجل وأكثر من خدمات قادة اسرائيل العسكريين أنفسهم واستقبلوها في اسرائيل استقبال الأبطال والزعماء التاريخيين.
وكم من حالات الإختراق حصلت لأشخاص عرب ومسلمين، واستطاع الموساد الإسرائيلي توظيفهم لخدمته، وكانوا معاول هدم للأمة في يد الأعداء، وكم من المناضلين الأشداء عجزت اسرائيل عن اصطيادهم لسنوات طويلة من التعقب والبحث المضني، ولكنها أخيراً وصلت إليهم عن طريق العملاء والخونة من بني جلدتنا ومن عظاام الرقبة، أمثال الشهداء (أبو حسن علي سلامة، وباجس أبو عطوان، وحسن العجوري، ويحيى عياش وكثير من القادة الفلسطينيين أمثال أبو إياد وأبو الهول وعصام سرطاوي وماجد ابو شرار، وكذلك السفراء في الدول الأجنبية أمثال محمود الهمشري، وعزالدين قلق ... وغيرهم والأمثلة كثيرة جداً.
السؤال المحير هو لماذا لم تستطع المخابرات العربية اختراق يهودياً من أصل يهودي واستقطابه للتجسس على اسرائيل لصالح العرب، وكل ما استطاعت المخابرات العربية عمله زراعة جواسيس من أصل عربي داخل اسرائيل، وبالمقابل زرعت اسرائيل جواسيساً من أصل يهودي داخل دول عربية وكادوا أن يصلوا الى منصب نائب رئيس الجمهورية، نستغرب ذلك العجز العربي على الرغم من حب اليهود للمال وسهولة استقطابهم وإغرائهم به. ولكن ما يستنتج من ذلك هو أن العدو يعمل لمصلحته ونحن غافلون ونائمون عن العمل لمصلحتنا.
من هنا نخشى من تغريب النشأ العربي، وارتداده على قيمه وأصالته وعلى لغته العربية، ونحذر من إرساله للغرب طلباً للعلم أو لأي غرض آخر دون تحصينه بالثقافة والقيم العربية والإسلامية والتربية الوطنية الحقة، وعلى أولياء الأمور متابعة أبنائهم الدارسين بالخارج وذلك مع الجامعات ولو من خلف حجاب، وعلى السفارات العربية فتح سجلات لكل طلبتها الدراسين في الدول العاملة فيها، وعلى الملحقيات الثقافية تقصي أخبار طلبتها ومتابعتهم والتحري عن سلوكهم وعن مدى تحصيلهم العلمي والوطني واستمرارية الإنتماء الوطني. فهنالك من يعمل على تدمير شباب الأمة ويتربصون بهم لإيقاعهم بأفخاخ وحفر تدمر طموحاتهم في التحصيل العلمي.
فتجربة احتلال العراق من القوات الأمريكية كانت درساً قاسياً يجب أن نتعلمه، فقد سيطر على وزارة النفط، وترك بقية البلاد نهباً لمن هب ودب من الموساد ووغيره من الأعداء، فقد استهدفت الجامعات والمعامل والمختبرات، وكذلك استهدف العلماء وأساتذة الجامعات، والضباط الكبار والطيارين، واستهدفت المتاحف والآثار والعلامات الحضارية الإسلامية والعربية.
يجب الإهتمام وإعادة الإعتبار الى لغتنا العربية التي كانت في يوم من الأيام هي لغة العلم والمعرفة، ويجب فرض تدريسهاتدريساً شاملاً يليق بها كلغة للقرآن الكريم ويليق بجمالها وعذوبتها في مناهج المدارس المحلية والأجنبية المرخصة في البلاد العربية، ويجب تدريس الثقافة الدينية السمحة في تلك المدارس. كما يجب تطوير المناهج المدرسية والجامعية لتتناسب مع التقدم العلمي ومع الثقافة والقيم العربية والإسلامية.
اللغات الأجنبية يمكن اكتسابها من الطلبة في أيام العطل المدرسية، فهنالك الكثير من المعاهد المنتشرة في البلاد العربية، ولا بد من التركيز على اللغة الأم وعلى القيم الإسلامية في مناهجنا التدريسية وعلى تربية النشأ تربية وطنية لا تقبل القسمة على إثنين ولا تستبدل بثمن مهما كان مغرياً وباهظاً.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت