برحيلك زدتنا عشقا يازياد

بقلم: نافذ غنيم


لم تكن عينيه أبصرت النور بعد، ولم يتناهى إلى مسامعه ضجيج المكان .. في احد زوايا المخيم كانت أسرته الفقيرة الكادحة تلملم أحلامها، وتبحث بين ثنايا الألم عن أمل جديد .. كان والده يكابد من اجل رزق أسرته، وأمه الطيبة تصارع الحياة من اجل تربية أطفالها، واستقبال مولودها الجديد الذي أثمرته بعد النكسة بخمسة أعوام .. ولد "زياد" وكأنه صرخة تمرد على واقع الهزيمة، وانتصارا لإرادة الحياة، لم يكن يعلم بعد ما تخبأه الأيام بين أصابعها، لكن ورغم قسوتها، كانت تعلمه فنون الصبر والتمرد .. حب الحياة وغضب الثائر، كانت تهدهده بترانيم الوطن .. بحبه بعشقه بالتضحية من اجله، وكانت أحلامه الطفولية تحلق في سماء المخيم باحثة عن مستقرها .

صارع مصاعب الحياة منذ نعومة أظافره ، تعلم واشتغل ليساعد أسرته، لم ييأس يوما، ولم يحد عن طريقه المستقيم الذي هداه إلى درب الثورة والثوار، كان مولعا بحب الوطن، حاقدا على الاحتلال وجرائمه ، وكذلك على الظلم والظالمين .

اختار أن ينحاز لأحلام الوطن وفقرائه .. لمبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية والمساواة، فمع باكورة شبابه شق طريقه النضالي إلى جانب رفاقه في حزب الشعب الفلسطيني، وانغمس في معمعان الانتفاضة ليشارك في مختلف فعالياتها، وبرامجها اليومية .

كان رفيقنا "زياد البلبيسي" من أكثر أعضاء الحزب انضباطا، ولم يتوانى في تنفيذ المهام الموكلة له، وبخاصة تلك التي تحتاج إلى تضحية قد يتردد البعض في انجازها، اذكر انه استشاط غضبا عندما لم نختاره للعمل في الجهاز الضارب للحزب " حراس الشعب" الذي قمنا بتشكيله أثناء الانتفاضة الأولى، وأصر على المشاركة به بكل تصميم وعناد، ونتيجة لنشاطه البارز ودوره الريادي في مخيم "الشابورة" الذي كان يقطنه، اعتقله الاحتلال الإسرائيلي عام 1992م مع عدد كبير من أعضاء الحزب في محافظة رفح، موجا له تهمة المشاركة في فعاليات الانتفاضة، والانتماء للحزب، والنشاط المسلح من خلال مجموعات " حراس الشعب ". كان إلى جانبي في زنزانة رقم " 9 " بسجن غزة المركزي، تحدثت معه كي ارفع معنوياته، لكني وجدته شامخا لم يرهبه سوط الجلاد ولا فاشيته، وبعد انقضاء فترة التحقيق، حُكم عليه بالسجن لستة سنوات، ليمضي سنتين منها متنقلا بين سجن غزة المركزي ومعتقل النقب الصحراوي، فكان نموذجا للسجين الصامد الذي لم تقهره قسوة القضبان ولا برد السجون أو لهيب الصحراء، مسجلا بسلوكه صفحات مشرقة في سجل حزبنا الكفاحي، وليُفرج عنه ومئات المعتقلين في عام 1994م، اثر توقيع اتفاقية أوسلو .

استطاع رفيقنا " أبا عائد " انتزاع احترام وحب من حوله، سواء كان ذلك على مستوى الحزب، أو على مستوى القوى السياسية، وكذلك من قبل جيرانه وأقربائه وكل من عاشره، فقد امتاز بالتواضع واحترام الآخرين، وطغى على شخصيته روح التسامح والتآخي، والتمرد على نزعة الفئوية والعشائرية، كان مرحا رغم قوة شخصيته، وأكثر ما ميزه مواقفه المبدئية تجاه الأحداث، حتى تلك المواقف الشخصية التي كانت تواجهه مع الآخرين .. لقد أحبه كل من تعامل معه، فقد وجد فيه رفاقه وإخوانه ممثلي القوى الوطنية والإسلامية في محافظة رفح رفيقا وأخا نموذجيا، وهو الذي كان ممثلا للحزب بينهم، ومرافقا لهم في كافة الأنشطة الكفاحية، الوطنية منها والاجتماعية . كما عرفناه في الحزب رفيقا مثابرا صلبا مبدعا نظيف اليد، ملتزما بسياسة الحزب ومواقفه المبدئية .. أحبه الرفاق فانتخبوه مسئولا لمنظمة الحزب في المخيم، ثم عضو في مجلس الحزب على مستوى المحافظة، ثم عضو في المؤتمر العام الرابع للحزب .

لم تشغله حياته النضالية عن حياته الشخصية، كان محبا مخلصا لزوجته المكافحة، التي أنجب منها أربعة أطفال، عائد وديما وجومانا وحياة، كان يحبهم أكثر من نفسه، حنونا عليهم، يصحبهم معه معظم الأوقات إلى مكتب الحزب، يريد لهم مستقبلا كما هو عليه، مناضلين أوفياء للوطن والشعب، محبين لإنسانية الإنسان بعيدا عن التعصب والانغلاق، كما كان مميزا داخل أسرته، فقد أحبه أخوته، واحترموه كثيرا، كيف لا وهم المناضلون المكافحون، هم الرفاق والأخوة والمجاهدين، الذين أعطوا وما زالوا من اجل شعبنا الصامد .

لم نكن نتوقع يا رفيقنا أن تترجل عن صهوة فرسك مبكرا، ولا أن تلوح مسرعا خلف الأفق.. لم نتوقع أن يغادرنا طيفك الجميل بهذه القسوة .. لا باس، فان الموت يخطف أغلى الأحباب دائما .. رحلت يا رفيقي تاركا لنا لوعة الفراق وألام البعد، وما يعزينا انك محفورا في القلب والوجدان، وان طيفك لن يفارق ناظرينا مهما طال الزمن .

هكذا كنت وأكثر أيها الحبيب .. هكذا كنت وستبقى إشراقة حب ووفاء في نفوسنا، وفي ذاكرة الحزب والشعب والوطن .. ستبقى نموذجا للعطاء، ونبراسا لكل العشاق .. نم قرير العين أيها الحر، فرفاقك سيواصلون الدرب من بعدك إلى أن تشرق شمس الوطن، حرية ودولة واستقلال وعودة، والى أن يجد فقراء شعبنا طريقهم الحق نحو العدالة والمساواة .

سلام لك يوم ولدت، ويوم ناضلت، ويوم رحلت

غزة – 31/1/2013م

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

· عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت