لكن هنالك من ينظر للنقد نظرة مغايرة لم نعتدها من قبل، حيث يتم تحميل صاحبه ما لا يطيق به من الصفات، تبدأ بتوجيه أصابع الاتهام له بأنه يقوم على خدمة مصالح خارجية طبقاً لنظرية المؤامرة، وهذا بطبيعة الحال يقوده إلى مربع العمالة والخيانة، أو على أقل تقدير يلصق بالنقد تهمة إثارة البلبلة وإضعاف الجبهة الداخلية، وكي تكتمل التهمة يتم تأصيل وتفصيل الناقد بما يخدم تكييف بنود الاتهام.
النقد بات من المحرمات التي لا يجوز الاقتراب منها إذا ما تعلق الأمر بالأنظمة الحاكمة التي جاء بها الربيع العربي، والتحريم جاء على اعتبار أن الأنظمة الجديدة أنظمة إسلامية، وبالتالي ما سواها هي أنظمة علمانية كافرة، على الرغم من أن الأنظمة التي حكمت العالم العربي منذ نشأة الإسلام حتى تاريخه أكدت على أن الدين الإسلامي هو دين الدولة، ودساتيرها نصت على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس للتشريع، وعلى الرغم من أن مصطلح التيارات الإسلامية هو حديث النشأة في عالمنا العربي، وتلونت بصبغة سياسية حزبية واضحة تهدف للوصول إلى الحكم حالها في ذلك كحال باقي الأحزاب السياسية الأخرى، والدليل أنها ضمت في صفوفها من هم من خارج العقيدة الإسلامية، كون ذلك من متطلبات أنظمة الانتخابات في العديد من الدول العربية لتمثيل الطوائف الدينية المختلفة في مجتمعاتها.
وإن تجاوزنا كل ذلك، فكيف يمكن لنا فهم تحريم النقد للتيارات الإسلامية الحاكمة؟، وكيف يمكن لنقد سلوكها أن يدرج ضمن معاني الإساءة للإسلام؟، وهل بات النقد يقوض دعائم الدولة المسلمة؟، لعل أصحاب هذه الآراء غابت عنهم المساحة الواسعة للنقد التي رافقت الدولة الإسلامية منذ نشأتها، ولسنا هنا بمعرض التوقف عند الكثير من قناديلها التي تنير العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولكننا نتوقف أمام واحدة منها، عندما وقف أعرابي أمام الأشهاد ليصرخ في وجه الفاروق عمر بن الخطاب، الذي ملأ بعدله الأرض، قائلاً "اتق الله يا عمر"، أثارت اللغة حفيظة الصحابة، فما كان من الفاروق إلا أن قدم درساً في الحكم حين قال "لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها".
لم يسجل خليفة المؤمنين هذا النقد اللاذع بأنه إساءة إلى الإسلام، ولم يتهم صاحبه بأنه ينفذ مؤامرة خارجية، أو أنه يسعى لتقويض أركان الدولة، ولم يتقدم ببلاغ للنائب العام ضد الأعرابي بتهمة الإساءة لحاكم المسلمين، ولم يقل للأعرابي إن حديثه ابتعد عن النصيحة واقترب من التشهير، ولم يتهمه بأنه مأجور ويأمر العسس بأن يأتوا إليه بمن يقف خلفه، بل سجل برده قاعدة وركيزة للحكم الرشيد.
قد يكون من حق الأنظمة الحاكمة اليوم أن تحرم النقد وتخضع صاحبه للمساءلة والملاحقة القانونية، إن كانت تتفوق بنظام حكمها على حكم الخلفاء الراشدين والصحابة من بعدهم، إن الحرص على الدين الإسلامي وتمكينه في الأرض يأتي باتباع تعاليمه لا من خلال تكميم الأفواه، ولا بمنطق الولي الفقيه المعصوم من الخطأ.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت