عندما كنت جالساً عند احد الأصدقاء هرع إليه احد الأبناء قائلا له يا بابا حيقعدوك غصب عنك علشان تساعد ماما في البيت فضحكت أنا وهو اصابته دهشة أعتقد الأب أن الابن فقدَ اٍحترامهُ فعند سؤاله له ماذا دهاك؟ قال له اٍذهب واسمع الأخبار عن التقاعد.
فعند العودة للمنزل وقرأت وسمعت أصبت بالدهشة أكثر فأكثر فأصبحت تتدلي من قلعة رأسي بعض الأفكار خاطفة الترحال....فاعتقدت أنني سأجن بل سنجن جميعاً إذا لم يعرف الوطن حقه اتجاهنا وحقوقنا اٍتجاه هذا الوطن .
فحق الوطن علي موظفيه كما تعارفت علية الأمم عندما تريد أن تقاعد موظفيها سواءً العسكريين أو المدنين الذين يتجاوز أعمارهم الستين عاماً قضوها في خدمة العمل وبناء مؤسسات الدولة التي تحملوا علي كاهلهم سنوات طوال من البناء عليهم ووفق السن والقانون وإعطاء فرص للأجيال اللاحقة لان البقاء لله وحدة تقوم بمنحهم تقاعد وبعدها يتم تكريم وإجلال المتقاعدين بعد أن خدموا الدولة هذه السنوات الطويلة التي قدموا فيها لأوطانهم زهرة شبابهم فتكافئهم بالرواتب التقاعدية والتأمينات الصحية التي تحافظ على كرامتهم وتوفر لهم حياة كريمة هذا ما يحدث في الأمم التي تحترم موظفيها المتقاعدين ليس لأنهم خدموا مدة طويلة بل على الأقل لآدميتهم .
إلا انه في الواقع في بلدنا يتم تفسير هذه الكلمة بشيء واحد فهي تتكون من جزأين (‘موت) و(قاعد).يعني حتى ممنوع تموت (واقف) أو(نايم) ..لازم تموت وأنت قاعد لانها هي قرار حكومي للذين أعطوا أعمارهم لهذا البلد الذي نتغنى به دائماً ونرفع شعاراته.
لان قصة معاناة الموظفين بدأت بعد الانقسام الأسود المرير فالتزم ألاف من الموظفين بقرار من شرعيتهم إلي الجلوس في البيوت وهم ليس مستنكفين ولا رافضين ولا مستكبرين عن العمل بل معتكفين عن الفتنة وملتزمين بما صدر إليهم وشيءً فشيءً تحولوا إلي قاعدين وتحملوا ذلك كما تحملوا بناء الوطن لسنوات والكثير منهم ضحي بحياته إما أسيراً أو مقاتلاً في خنادق المعارك في الشتات ومنهم صاحب علم وفكر وكارزمه ومنهم من قام ببناء مؤسسته حجر حجر.
فالتقاعد المبكر الذي يتم تداوله اليوم ما هو إلا إجحاف بالموظفين الذين التزموا بقرارات مركزية من الشرعية فاليوم نسمع ونقرأ سيتم تحويلهم من قاعدين إلي متقاعدين وغداً إلي (مات قاعد) وهم في ريعان شبابهم فالمتعارف عليه علمياً ونفسياً إن من سن الأربعين وما فوق يبدأ النضوج الفكري وتبدأ الثورة الفكرية وتبدأ حكمة القيادة إلا في وطننا فيبدو أن يجلس الفكر وتجلس الكارزمه ويجلس أصحاب العلم في البيت حتي تموت وهيا قاعدة، وحتي يتم جني المبالغ الطائلة التي تجبيها مؤسسة معاشات التقاعد والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية وحتي تستريح الموازنة العامة وتنتعش حصة التأمينات التي لا تدفع المبالغ التي حصلتها من الموظفين طيلة خدماتهم إلا بعد تجاوز خدمتهم 15 عاماً (التقاعد المبكر) أو ببلوغهم الستين (التقاعد النظام) فيصبح بعدها المتقاعدون ممنوعون من التقسيط أو الإقراض أو حتى من التكريم إلا من بعض القطاعات أو الإدارات التي يدبر مديرها أو مسئولها خطةً لتكريمه عند مغادرته موقعه، والمتقاعدون ليس لهم وجود في حفلات الدولة الرسمية وحتى الرياضية والترفيهية.
هم ناس (بلا صلاحية) لأن بلادهم قد (مصت) دماءهم. هم فقط لحم وعظم وآهات..
لكن دول الحضارات المتقدمة المتقاعد.. هو أول ضيف للدولة وفي الصفوف الأمامية في مناسباتها الرسمية.و المتقاعد.. يذهب البنك والمصرف إلى بيته..و المتقاعد.. يذهب إليه الطبيب والإسعاف وحتى غرفة نومه والمتقاعد.. له سعر مخفض في مخازن الأغذية والطيران.إلا في بلادنا العربية له الخيار تذهب إلى المسجد أو المقبرة (مُت قاعد).
وإذا فعلا تم تطبيق التقاعد المبكر كما يروج لهذا القرار حلياً والموظفين لازالوا في ريعان شبابهم وعقولهم وعلمهم وفكرهم فسيصبح بدل التكريم والاحترام وتوفير سبل العيش والراحة سيصارع المتقاعد من أجل البقاء على قيد الحياة ويصبح ملطشة لكل من هب ودب فالمتقاعدون سيحظون بتجاهل غريب وكأنهم ليسوا أفراداً من هذا المجتمع قدموا له زهرة أعمارهم وقد نسي الذين سيتجاهلونهم اليوم أنهم سيصبحون غداً أعداداً تضاف إليهم وسيصيبهم ما أصاب سابقيهم هذا التجاهل سواءً أكان بحسن نية أم بسوئها ولا يوجد ما يبرره فمن حق هؤلاء أن يحظوا بكل الامتيازات التي ينالها سواهم لأنهم من بنو الوطن وضحوا من اجله لا سيما وأن هناك إمكانيات وقدرات ذهنية وبدنية وكفاءات علمية لغالبيتهم وهي هائلة فمن حقهم أن يبقوا في أماكن عملهم وإعطائهم الرغبة في الاستمرار أو عدمه وليس إرغامهم علي التقاعد ومن ثم ذهابهم إلي المقابر (موت القاعد) بعد إصابتهم بالجلطات والأزمات القلبية واللوثة العقلية هذا ليس من باب الشفقة ولكن من باب الواجب الذي ينبغي أن يؤدى لهم وليس لسواهم، ومن واجبات الوطن اتجاههم لما قدموه له من تضحيات جسام لا تقدر بثمن .لأنه سيتعرض الكثير من هؤلاء المتقاعدين في كل القطاع العام للكثير من الإهمال وسوء المعاملة من حين لآخر من بعض صغار الموظفين الشباب الذين هم على رأس العمل سواء كان في المعابر أو نقاط التفتيش المروري والأمني أو عند مراجعة الوزارات والمصالح الحكومية ونحو ذلك وربما سيعاملون معاملة المشتبه بهم في بعض الأحيان وقد نسينا أن بعض هؤلاء المتقاعدين كانوا بالأمس القريب في طليعة المجتمع ومن كبار موظفي الدولة والمسئولين فيها ومنهم القضاة ووكلاء الوزارات وكبار الضباط والأطباء والمديرين ولعلنا نلتمس عذرا لموظفي اليوم إذ لا إثبات أمامهم للتعرف على هؤلاء المتقاعدين الذين يتعرضون لمواقف حرجة، فنتمنى كل ما سمعناه عن التقاعد المبكر ما هو إلا نسيج من الخيال ولا أساس له من الصحة وما هو إلا إعلام فقط .لأنني أخشي ما أخشاه أن أستيقظ ذات صباح وأجد ألاف من الموظفين سيتحولون من قاعد إلي متقاعد...ألي مُت قاعد.
د.هشام صدقي ابويونس
كاتب وباحث في الاقتصاد والفكر السياسي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت