أمَّك، ثم أمَّك، ثم أمَّك، ثم أباك..

بقلم: الشيخ ياسين الأسطل


أيها العباد إنكم في نعم الله تصبحون وتمسون ، ولكنَّكم لا تحصون هذه النعم عدا ، ولا تعلمون لها حدا ، فبعضها أعظم من بعض ، فما كان منها أعون على الآخرة لاشك في جلالته ، ولكن ما هو أعون على الدين والدنيا جميعاً فهو الأجل ، ألا وإن نعمة الوالدين هي أعظم النعم عوناً على الدين والدنيا جميعاً ، ، والداك منذ صغرك وحتى كبرك ، يفنيان نفسيهما لبناء نفسك ، يبكيان لبكائك ، ويحزنان لحزنك ، ويفرحان لفرحك ، إنهما أبواك الرحيمان ، ووالداك العظيمان ، فيا سرورك ويا سعدك إذا أدركهما الكبر أو أحدهما وأنت على قيد الحياة لك ذرية ، فإنك إن كنت باراً بهما فإن أولادك ينظرون إليك وإليهما ، وينتظرون ، فما تفعله من بر أبويك ، تجده من بر أبنائك ، وما تفعله من عقوق والديك تَلْقَهُ من عقوق أبنائك ، فالجزاء من جنس العمل ، ولا يظلم ربك شيئا ، فلا نعمة على العبد بعد التوحيد أبقى ولا أتقى ولا أنقى ولا أكبر من نعمة الوالدين ، فهما سبب وجودك ، وهما سبب نموك ، فقد ربياك صغيرا ، ورعياك كبيرا ، نشأت في كنفهما ، وترعرعت في عطفهما ، لايطعمان حتى تطعم ولا يضحكان حتى تضحك ، ولا ينامان حتى تنام ، فسبحان من جبلهما على رحمتك ، وأصبرهما على رضاك ، فهما رهن إشارتك . مهما طلبت أجاباك ، ومهما أمرت أطاعاك ، فكأنك أنت الوالد ، وكأنهما هما الولد ، لذلك حُقَّ للوالدين أن يذكرهما الله ذكراً مقروناً بذكره صريحاً في خمسة مواضع في القرآن العظيم :
* الأول، لما أخذ الله تعالى الميثاق بتوحيده في عبادته وعدم الإشراك به على بني إسرائيل .
قال سبحانه في سورة البقرة :{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) }
* والثاني، في خطابه الكريم آمراً المؤمنين.
قال تعالى في سورة النساء: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) }.
* والثالث ، عند محاججة المشركين .
في سورة الأنعام قوله سبحانه : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) }.
* والرابع ، في خطابه الكريم آمراً المؤمنين.
في سورة الإسراء قال جل وعلا : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) }.
* والخامس ، عند وصية لقمان لابنه وهو يعظه .
في سورة لقمان قال جل من قائل : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) }.
أيها المؤمنون الموحدون، يا أهل الإسلام : وأما مكانة الوالدين في الحديث الشريف ، فإنها بالمحل الأسمى والمكان الأرفع كذلك ...
* طاعة الوالدين والإحسان إليهما من الجهاد ، بل لا يُجَاهِدُ المجاهدُ إلا بإذنهما ، فقد روى الإمام البخاري رحمه الله في الصحيح قال : ( باب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين ) وذكر الحديث بسنده المتصل الصحيح فقال :( حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ وَكَانَ لَا يُتَّهَمُ فِي حَدِيثِهِ قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ : " أَحَيٌّ وَالِدَاكَ ؟ " قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : " فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ " ) اهـ . وبنحوه جاءت الرواية عند مسلم وأبي داوود والترمذي والنسائي وأحمد رحمهم الله جميعاً .
بل وقد جاء تقديم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله فيحديث عبد الله بن مسعود عند الإمام أحمد في المسند قال : حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ : " صَلِّ الصَّلَاةَ لِمَوَاقِيتِهَا " ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : " بِرُّ الْوَالِدَيْنِ " ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : " ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " ، وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ ، لَزَادَنِي .
* والوالدان هما الباب الأوسط من أبواب الجنة :
روى الإمام الترمذي في السنن عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ : ( إِنَّ لِيَ امْرَأَةً وَإِنَّ أُمِّي تَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا . قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ احْفَظْهُ " ) اهـ .
وفي رواية الإمام أحمد قال : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ :( كَانَ فِينَا رَجُلٌ لَمْ تَزَلْ بِهِ أُمُّهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ حَتَّى تَزَوَّجَ ، ثُمَّ أَمَرَتْهُ أَنْ يُفَارِقَهَا ، فَرَحَلَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ بِالشَّامِ فَقَالَ : إِنَّ أُمِّي لَمْ تَزَلْ بِي حَتَّى تَزَوَّجْتُ ، ثُمَّ أَمَرَتْنِي أَنْ أُفَارِقَ ، قَالَ : مَا أَنَا بِالَّذِي آمُرُكَ أَنْ تُفَارِقَ ، وَمَا أَنَا بِالَّذِي آمُرُكَ أَنْ تُمْسِكَ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ احْفَظْهُ " . قَالَ : فَرَجَعَ وَقَدْ فَارَقَهَا . ) اهـ .
* ولذلك كان الوالدان أحق الناس بحسن الصحبة ...
فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما واللفظ لمسلمٍ قال : )حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ ؟ قَالَ : " أُمُّكَ ، ثُمَّ أُمُّكَ ، ثُمَّ أُمُّكَ ، ثُمَّ أَبُوكَ ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ " .

عباد الله،أيها المؤمنون:ومن قصص السلف في آثار بر الوالدين ما روى البخاري في الأدب المفرد ، قال الْبُخَارِيُّ : وَثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ ، قَالَ : أَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِيزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : " إِنِّي خَطَبْتُ امْرَأَةً فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَنِي ، وَخَطَبَهَا غَيْرِي فأَحَبَّتْ أَنْ تَنْكِحَهُ ، فَغِرْتُ عَلَيْهَا ، فَقَتَلْتُهَا ، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ ؟ قَالَ : أُمُّكَ حَيَّةٌ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : تُبْ إِلَى اللَّهِ ، وَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ مَا اسْتَطَعْتَ . فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ : لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ ؟ فَقَالَ : إِنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ ".
وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - إذا أراد أن يخرج من دار أمه وقف على بابها فقال: السلام عليك يا أمتاه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك يا بني ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً، فتقول: ورحمك الله كما سررتني كبيراً، ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك.
وقال مكحول والإمام أحمد - رحمهما الله تعالى- : بر الوالدين كفارة الكبائر.
وقال ويروى عن عبد الله بن المبارك أنه بكى لما ماتت أمه، فقيل له؛ فقال: [ إني لأعلم أن الموت حق، ولكن كان لي بابان للجنة مفتوحان فأغلق أحدهما ].
فلنبادر يا عباد الله إلى بر الوالدين ، ومنه صلة الأرحام ، وبر صديقهما ، وإنفاذ عهدهما ، والدعاء لهما والاستغفار .
اللهم صلِّ وسلم على محمد وآله الأكرمين ، وارض اللهم عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

بقلم/ الشــيخ ياســين الأســطل
الرئيس العام ورئيس مجلس الإدارة
بالمجلس العلمي للدعوة السلفية بفلسطين

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت