دروس من عالم الحيوان الجزء الثالث

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج


الدرس الخامس: الوفاء والغدر

أراد الله من خلق الحيوان ليكون فيه العبرة والموعظة للإنسان بالإضافة الى منافعه التي لا حصر لها، ولم يخلق الله كائناً حياً تتوفر فيه الصفات الحميدة بصورة مطلقة، وإنما أوجد الطيب والخبيث في كل خلقه، إذ خلق الله من كل كائن ومن كل جماد ومن كل صفة أو معنىً زوجين متضادين، إما متكاملين متطابقين أو متفاضلين متعاكسين (أحدهما أفضل من الآخر)، فلا قيمة لأحد منهما دون معرفة قيمة الآخر. إذ لا ندرك قيمة للشبع دون أن نحس بنهش الجوع، ولا ندرك قيمة الحب دون أن نحس بالكره، ولا قيمة للذكر دون الأنثى. فالذكر والأنثى متكاملين متجاذبين، والصديق والعدو متنافرين متخاصمين. هكذا هي الحياة، تنافر وتجاذب، سلام وخصام، فيها السعادة والشقاء، وفيها العسر والمكابدة ، وفيها اليسر والإستمتاع.

لم يكن عالم الحيوان استثناءً، فقد أوجد الله فيه فطرة الخير وفطرة الشر، وضرب الله الأمثال بالحيوان في القرآن الكريموذلك لتعليم الإنسان الحذر واستخدام عقله في اتخاذ وسائل الوقاية من الأعداء وبالتالي من التهلكة.

كيف لا وقد استفاد الإنسان من الطير في صناعة وتصميم الطائرات لتحافظ على إتزانها بالجو وفي صنع السيارات مستلهماً أشكالها من الحيوانات.

هنالك الوفي من الحيوانات، وهنالك الغدار الذي يلزم الحذر منه، وهنالك الذكي وهنالك الغبي، فمعظم الحيوانات إن تم تدجينها وتطبيعها من الصغر عندما تبصر النور تظل وفية لصاحبها، وأوضح مثال على ذلك الكلب والقط. فقد ضرب المثل بوفاء الكلب لصاحبه، واستماتته في الدفاع عنه وعن ممتلكاته، ودرجت العرب على وصف وفاء الإنسان بوفاء الكلب، حيث كانوا يقولون، فلانٌ وفيُّ وفاء الكلب، أو "فلانٌ أوفى من الكلب". وخير ما نستشهد به على ذلك قول إبن الرومي في هجاء رجل اسمه عمرو:
وجهك يا عمرو فيه طولُ وفي وجوه الكلاب طولُ
مقابح الكلب فيك طُرّاً يزول عنها ولا تزولُ
وفيه أشياءٌ صالحاتٌ حماكها الله والرسولُ
فالكلبُ وافٍ وفيك غدرٌ ففيك عن قدْرِهِ سُفولُ
وقد يُحامي عن المواشي وما تُحامي وما تصولُ
ومن الأمثلة على غدر الحيوان وعدم وفائه لمن يحسن اليه "الضبع". حيث روى العرب أن صيادين كانوا يطاردون ضبعة (أم عامر كما كان يطلق عليها العرب) حيث كانوا يأكلون لحم الضبع، فاحتمت بخيمة أعرابي، وحماها الأعرابي وأجارها من الصيادين، وأطعمها وسقاها حتى شبعت ورويت، ثم نام الأعرابي، وبينما هو نائم، عادت الضبعة لكارها ولطبعها الغدار، فحفرت حفرة بجانب الأعرابي، وأسقطته فيها، وكسرت جمجمته وبقرت بطنه، وشربت دمه. فجاء ابن عمه يبحث عنه، ولما استطلع الأمر وفهم ما جرى له قال:
ومن يصنع المعروف مع غير أهله يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر
وعلى نفس المنوال هنالك حكمة عربية تقول "إتقِ شرَّ من أحسنت اليه"
وما أكثر ناكري المعروف في عالم الإنسان الذين يسيؤون لمن أحسن إليهم. ولكنهم في عالم الحيوان أقل من عالم الإنسان.

وهنالك المثل الشعبي الفلسطيني الذي يقول " كل شيء بتزرعو بتحصدو، إلاّ بني آدم، إذا زرعتو بقلعك". ولم تُستنتج تلك الحكم والأمثال وتتوارث من جيل الى جيل من فراغ، إنها من كثرة غدر الإنسان لأخيه الإنسان على مر الزمان، ومن قلة وفائه لمن يصادقه ويحسن إليه.

الدرس السادس : تفاوت الذكاء وحسن الإدارة بين الحيوانات
هنالك من الحيوانات الذكي الذي يحسن التصرف وإدارة شئونه وعلاقاته البينية بإتقان،وهنالك منها الغبي الذي يدير شئونه برعونة فيقع في المصيدة، ومن الأمثلة على الحيوانات الذكية الفأر الذي يصعب التحايل عليه، والإمساك به إن دخل البيت، فيرفض الطعم الذي يوضع له للإيقاع به، ومن الأمثلة على حسن الإدارة والتخصص الوظيفي، مملكة النحل ومملكة النمل، فعالم النحل والنمل يشكل درساً مفيداً في الإدارة والإختصاص الوظيفي والوفاء والإخلاص في العمل، وفي السعي للرزق، وقد ورد في القرآن الكريم سورتين مفردتين لهذين المخلوقين العجيبين، سورة النحل وسورة النمل لما في هاتين المملكتين من تنظيم وانسيابية في العمل، ولما في مواطنيها من سعي وتدبير وتضحية من أجل الصالح العام. على الرغم من فقدهما لفطرة الغريزة الجنسية، فالإستمتاع بالنسبة لهاتين المملكتين هو السعي والعمل المتقن والتدبير والتوفير لمقابلة مصاعب الحياة ومكابدتها.

ففي مملكة النحل يوجد فريق للحماية والدفاع عن الوطن (وزارة للدفاع) تدافع فيه النحلات بشراسة عن الوطن والملكة والصغار، وفريق لجلب الطعام من رحيق الأزهار (وزارة التموين)، وفريق للعناية بالصغار والنشأ الجديد، وحماية الملكة التي تمثل الرمز الوطني (وزارة الداخلية)، والنحل يمتاز بدقة الصناعة إذ يظهر ذلك جلياً في القرص الشمعي الذي تصنعه العاملات، تصميم متقن تكاد تكون فيه نسبة الخطأ 0%.
أما بالنسبة للنمل فهي مثال للجد والإجتهاد والسعي على الرغم من صعوبة المهمة وكثرة المعوقات والمخاطر في الطريق، وهي مثال لإدارة أزمات الجوع والفقر، وتخزين المؤونة للأوقات الحرجة التي يصعب الخروج فيها لجني الرزق وخاصة بالشتاء. فتجد النملة تحمل قشة تفوقها حجماً أوحبة تفوقها وزناً، ولكنها تتميز بالإصرار على جلبها لبيت النمل، فتسقط وتقوم مراراً ولكنها لا تعرف اليأس ولا تقر بالهزيمة، تظل على تصميمها لا يثنيها الاّ ما يفوق طاقتها وقوتها الضعيفة في ظروف قاهرة وخارجة عن إرادتها القوية وقدرتها الضعيفة.

نستغرب تميز الحيوان على الإنسان في الإخلاص للعمل، وحسن الإدارة، وفي السعي وعدم اليأس، وفي التضحية والدفاع عن العرين، وفي الإتقان والتدبير، وفي العلاقات البينية بين أبناء الوطن والقوم والعائلة. ولن تجد نملة أو نحلة واحدة تخون شعبها وتتعامل مع أعدائها ضد مملكتها. أو تتقاعس عن أداء دورها ووظيفتها.

ومن الأمثلة على الحيوانات الغبية هو فصيلة الحمار، حيث ضرب الله مثلاً بذلك في موضعين بالقرآن الكريم، حينما وصف الإنسان الذي لا يفقه ما نزل اليه من رسالات سماوية ويعمل بها كالحمار الذي يحمل أسفاراً حيث قال تعالى في كتابه العزيز "مثل الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً، بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، والله لا يهدي القوم الظالمين". كذلك وصف الله الأصوات النشاز في صوتها وفي مضمون كلامها التي تصدر عن الإنسان بصوت الحمار الذي استنكر صوته حيث قال "واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير". وفي ذلك نهي للإنسان عن الأصوات النشاز في الحديث والحوار.
الدرس السابع: الخيانة وعلاقات المصالح (الشذوذ السياسي)
على الرغم من أن الخيانة رديف للغدر في بعض جوانبها، الاّ إن مدلولها أوسع وأشمل من الغدر بكثير، لذلك لا بد من إفرادها بدرس مستقل نظراً لأهميتها وخطورتها وانعكاسها على الإنسان ومطابقتها لعالم السياسة السائد هذه الأيام.

والمدخل لهذا الدرس قوله تعالى "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاًوإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون" صدق الله العظيم.

قد يتبادر للذهن أن المقصود ببيت العنكبوت فيزيائياً هو الخيطان الدقيقة التي تنسجها حول نفسها والتي تعتبر من أقوى الخيوط كالفولاذ، وتستعمل في سحب الطائرات. ربما يكون ذلك مقصوداً في بعض جوانبه في خفته وضعف أساساته وعدم حمايته من البرد والحر، ولكن لب المقصود الأهم هو العلاقة الأسرية العنكبوتية. ولكن كيف ولماذا؟

عائلة العناكب والعقارب والأفاعي وكل الحيوانات السامة (بيوتها) وكر للخيانة والخسة والدناءة والدموية والإجرام والقتل غير الرحيم، وهي مثال للأنانية والتعصب للذات، ولتغليب المصالح الشخصية الذاتية على المصالح العامة للرعية بشكل مطلق. وتظهر فيها شريعة الغاب تطبق بين أفراد الأسرة الواحدة (والد ووالدة وأبناء) على عكس باقي معظم الحيوانات. حيث تنعدم الرحمة والمودة والعرى القوية بين ذوي القربى، والتي هي الأسس والقواعد الصلبة لبناء بيت الزوجية إذ تنعدم في هذه السلالات السامة عواطف الأمومة المتدفقة وعواطف الأبوة، وتسود الخيانة والقسوة والجريمة بين أفراد العائلة الواحدة.

وقد خص الله العنكبوت كمثل لهذه السلالة في سورة بالقرآن الكريم لأخذ العبرة من بيتها، تماماً كما خص النحل والنمل بسورتين منفصلتين لأخذ الموعظة منها. وجاءت سورتي النحل والنمل بصفة الجمع لما للتعاون بين الجماعات من أهمية ومنفعة هائلة، ولما لمصلحة المجموع من خير وقيمة عند الله، أما سورة العنكبوت فجاءت بالمفرد للدلالة على سوء الأنانية للفرد، وخطورة استهداف المصالح الفردية على حساب مصالح المجموع.

ففي بيت العنكبوت أسندت القوامة للأنثى، فهي أكبر من الذكر حجماً وأكثر قوة، فالذكر كسول لا يستطيع إطعام نفسه ويعيش على الفتات، وهي التي تبني عش الزوجية عندما يحين موعد التزاوج بدليل استعمال تاء التأنيث (اتخذت بيتاً) وهذا ما ثبت بالبحث العلمي، وهو أن الأنثى هي التي تبني البيت، وتبدأ في مغازلة الذكر (أي ذكر تعثر عليه، إذ لا تتخذ لها زوجاً معيناً فتختار هي من تشاء من الذكور)، فتستدرجه بالغزل وتدخله لبيتها، وتقوم على إطعامه ودلاله حتى يقوى، حيث لديها مصلحة في ذلك، وهي أن تقضي وطرها، فيتم التزاوج داخل البيت، وبعد ذلك تنتهي مصلحتها معه، فتنقلب عليه إنقلاباً شرساً، وتبدأ بمطاردته حتى تجهز عليه وتقتله وتأكله، وتبدأ في تربية صغارها، ولما تكبر الصغار ويشتد عودها تتنكر للأم، فتهجم عليها وتقتلها وتأكلها.

وهل أوهن من أسرة (بيت العنكبوت) حيث يقوم هذا البيت على المصالح الخاصة، وعلى الخيانة والقتل والجريمة والمصالح الشخصية بين أبناء الأسرة الواحدة. وهذا ينطبق على من يتخذ من دون الله إلهاً، فلا رادع له من إقتراف الذنوب في الدنيا، ولا فواصل وحدود عنده بين الخير والشر، ولا مجير له بالآخرة، فيخسر الدنيا والآخرة معاً،ويعود لبارئه كمن يعود بخفي حنين.

هذا ما نلمسه في عالم السياسة اليوم، والعلاقات الدولية التي تقوم على المصالح الخاصة للدول والجماعات، في غياب للقيم والمباديء والأخلاق، فتُقترف الوسائل الدنيئة والإجرامية لتحقيق المصلحة الدنيوية الشخصية، فنجد حليف الأمس هو عدو اليوم، وعدو الأمس هو حليف اليوم، في ممارسة للشذوذ السياسي دون حياء أو خلق أو مبدأ أو لسعة ضمير.

كما أننا نلمس اليوم في عالم الإنسان القتل والجريمة بين أبناء الوطن الواحد، والإقتتال بين الأخوة بسبب تغليب المصالح الشخصية على المصالح العامة، وغياب الرحمة والمودة. ما أشبه المجتمعات الإنسانية التي تمارس الإقتتال الذاتي بين الأخوة وأبناء الدم الواحد، بمجتمعات السلالات السامة. فليتعظ الإنسان ويتمعن في قوله تعالى "إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت". فستظل أوطان هذه المجتمعات المقتتلة واهنة وضعيفة وصيداً سهلاً لمن هب ودب كمن ينام عارياً بالخلاء، تمارس على نفسها التدمير الذاتي، إنها الخيانة العظمى كخيانة العناكب.وبئس ما اتخذ الإنسان مثلاً.

وليتخذ الإنسان مثلاً له من تنظيم النحلومن سعي واجتهاد النمل، وتضحية الفرد من أجل المجموع، ويغلب المصلحة العامة على الخاصة. ونعم ما اتخذ الإنسان مثلاً.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت