لم يعد الحجر وحده من القاع ،ولا الدم من رأس القبيلي !!

بقلم: حامد أبوعمرة


أذكر أني لما كنت ادرس بالخارج في أحد الكليات العسكرية ،حيث كنت أقف في طابور الداخلية المسائي اليومي وسط زملائي في تلك الفترة فترة الاستجداد ،وكان قائد الطابور آنذاك احد طلاب الكلية الأقدم منا ،وقد كنا جميعا نقف أمامه في صفوف متراصة مرتبة كالعناصر الكيميائية في الجدول الدوري الحديث ،وكنا نقف صامدين كالمتاريس.. فلاحراك ،ولا تنفس بصوت عال،ولا حراك لمقلة العين يمينا أويسارا ،وكأنما على رؤوسنا الطير كم كانت فرصة مواتيه ، لتكالب الذباب علينا، و إناث البعوض لاذكورها وأقول إناث.. لأن أنثى البعوض فقط تمتصّ الدماء. مستغلة الظروف !! فويلٍ لمن يفكر في تحريك جسمه بدون إذن أو أن يحك جلده ،وويلٍ لمن يحاول ثني قدميه ،أويلتفت برأسه ...كانت الراحة المشروعة ،والمتنفس الوحيد ،ننتظرها بفارغ الصبر وهي بالقول :راحات !!..عندها فقط نشعر بنشوة الحرية ،حرية الحراك ،وهرش الجلد ،وتحريك أصابع اليد والأقدام أوالالتفات بالرأس يمينا أو يسارا وكل ذلك على عجالة ينتهي في لحظات سريعة بالقول :انهي.. فنعود كما كنا!!..ما استوقفني في تلك الأيام الصعبة والحلوة في نفس الوقت كلمة كانت يتردد صداها على مسامعي ، وهي كلمة تحذيرية مجازا لكل الذين يخالفون الأوامر العسكرية :"الحجر من القاع ،والدم من رأس القبيلي !!"والقصد العقوبة يتكبدها دائما الطالب المشاكس والمخالف للتعليمات أو طلاب الدفعة الواحدة تبعا للقول السائد في الأوساط العسكرية " بأن الحسنة تخص والسيئة تعم "وكم تمنيت ان يتغير ذاك المفهوم إلى أن الحسنة تعم ،والسيئة تخص لكن لامناص من التغيير حينذاك !! كلمات قليلة موجزة لكني احملها في وجداني وذاكرتي ،وبمخيلتي بمعاني واسعة الملامح ،وعميقة كأعنان السماء ،.. كلمات دقيقة كأنوية الذرات .. فالحجر يا أحبائي من القاع أي متوفر بزخم ،وفرة تراب الأرض ،ولا ثمن له ،لكن الدم وما أدراك ما الدم عندما ينزل من رؤوس العباد فهنا تختلف المعادلة مابين الماديات والمحسوسات مابين الغث والسمين وبين العلو والسقوط !!
لكن هل الحجر فقط من القاع أم ان حياتنا اليوم أصبحت قيعان ؟!! ألسيت الخطيئة من القاع ،قاع نسيج حبائل الشيطان ؟!،أليست الواسطات والرشاوي وإثارة الفتن والدمار ،وحالة الفوران ،والتفكك والانسلاخ من القاع ؟أليست الانقسامات الجغرافية والسياسية والاجتماعية التي تعتري بلداننا العربية ،وقد باتت تؤرقنا وتطارد مضاجعنا أليست ،كذلك من القاع ؟!
أليست البطالة ،وطحن الفقراء إلى بقايا آدمية من القاع ؟!،أليس انتحار الخبز على عتبات أبواب المخابز الخاوية من القاع ؟!! لم أكن أعلم أن الحجر يمكن له أن يتطور كما تطورت التقنية في أزماننا فتحول من صورته المحدودة إلى صور أخرى لها علاقة وطيدة بحكامنا وسياساتنا ،وحياتنا ،وواقعنا المؤلم ، لكن المصيبة في اختلال المعادلة وتوسع أواصرها هو أن الدم قد تجاوز رأس القبيلي ورأس الطالب بكثير .. فهذه المرة لم يكن الطالب الأقدم ،والذي ينتمي إلى كُلّيتنا هو قائد الميدان.. بل أيادي خفية تحركنا كالدمى على مسارح العرائس !!،وهذه المرة لم تكن فيها الدماء من رؤوس الطلاب.. بل طالت رؤوس الشعوب التي تبحث دأبا عن الحريات ،وتفتش عن الاستقرار والأمان ..وهل يمكن لتلك الشعوب و التي أصبحت بين ذكور وإناث البعوض ان تستمر في مواصلة ثوراتها تمردا وسخطا على حكامها ،ولنيل حقوقها المسلوبة وعندئذ لا تبالي بان يكون نزيف الدم من رؤوسها أو من أجسادها ،أم يمكن في نهاية المطاف ان تستسلم تلك الشعوب بكل رضوخ منتظرة فقط كلمة راحات !!!

بقلم /حامد أبوعمرة

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت