عندما يكون المنصب هدفا لا وسيلة

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج


عندما يكون المنصب هدفاً يستشري الفساد ويستفحل التخلف
من أوجه الفساد المتفشي بالمجتمعات العربية، والمتوارث عن الأجيال من تناقل جين العصبية القبلية وجين شهوة السلطة المستوطنين في الكروموسومات العربية، وذلك نتيجة للشعور بالنقص الناجم عن إهمال قواعد التربية السليمة للنشأ، حيث تزيد الشهوة للسلطة وامتطاء صهوتها وذلك لتثبيط مشاعر اليأس والإحباط من جرائر التخلف الذي تعيشه الأمة اليوم، فيلجأ الإنسان العربي الى جعل المنصب هدفاً له، لا وسيلة يستطيع من خلالها خدمة المجموع والإستحواذ على رضا الناس ورضا الله في إطار العمل الصالح الذي يرافق المرؤ بعد مماته وحين مقابلته رب العالمين بميزان تتفوق فيه كفة الصالحات على كفة الطالحات للنجاة من الحساب والعقاب، فينسى كل ذلك ويسلك الطرق المشروعة وغير المشروعة، ويطرق جميع الأبواب المحرمة وغير المحرمة التي تؤدي الى الفوز بالمنصبمستخدماً كل ما أوتي من إمكانيات، حتى لو كان ذلك على حساب قوت أولاده، أو استدان المال من أجله، وسيجد من يقرضه، لأنه سيرد الدين للدائن من عوائد استغلال المنصب إما معنوياً بخدمة يطلبها الدائن، أو مالياً بالتقسيط الميسر والمريح، حيث سيستحي الدائن من مطالبة المسئولالمدين له والذي أصبح يتبوأ منصباً هاماً في دائرة صنع القرار، لذا لا بد وأن يكون الدائن بحاجة إليه يوماً ما، لذلك فلا مانع لديه أن يظل دائناً له لكي يبتزه كلما شاء من أجل تيسير أموره الحياتية التي هي حق له دون مقابل لو كان يعلم. لكنه يعلم ولا وسيلة أمامه غير ذلك لأن الفساد هو السائد اليوم، والعدل والنزاهة هما المتنحيان، إذ لا فضل للموظف على المواطن إن ييسر الموظف أموره ضمن القوانين السارية، أو ضمن الهوامش المسموحة بصلاحيات استثنائية خارج إطار القانون.
قال تعالى في كتابه العزيز وهو يروي قصة سيدنا موسى مع بنات شعيب، "قالت إحداهما يا أبتِ استأجره ، إن خير من استأجرت القوي الأمين".تلك هي قواعد إنتقاء الموظفين، وأسس التعيين الوظيفي مختصرة ومفيدة وشاملة وقاطعة، دون دورات وتدريب في علوم القوى العاملة التي نتلقاها من خبراء الغرب المتقاعدين الذين انتهت صلاحيتهم في بلادهم، وذلك مقابل أموال طائلة تدفع لهم من مقدراتنا، وفي هذا السياق القرآني القصصي كانت المهنة أو الوظيفة الشاغرة هي "راعي غنم"، ومن متطلباتها أن يكون المتقدم قوي العضلاتوله قدرة على الصبر، ولديه طاقة على الإحتمال للقيام بأعبائها، وقوة العضلات تتوفر في الذكر أكثر منها فيالأنثى، إذن القوة هنا هي بمثابة المواصفات والمؤهلات والمهارات المطلوبة لشغل الوظيفة، وهي متطلب إجباري يجب توفره بالمتقدم،وهذه إن توفرت في المتقدم لا تكفي،هنالك ما يختص بالضمير والإستقامة والخلق الحسن، وهي الأمانة مع النفس أولاً ومع متطلبات المهنة وكيفية ممارستها ثانياً، وتلك إذن متطلبٌ إجباري يجب أن يتوفر أيضاً في المتقدم للوظيفة، لكي لا يساء استخدام الوظيفة من قبل الموظف إن فهم طرقها وأساليبها، فيعقدها أمام الناس، من أجل تسهيلها برشوة أو بخدمة مقابلة لهذا التسهيل.أو يخرقها ليسرق من خلالها المال العام الذي هو من حقوق عامة الناس.
وكانت المقابلة لهذه الوظيفة الشاغرة بصدفة جمعت بين إبنتي شعيب وسيدنا موسى، حينما كان جالساً يرتاح من سفر طويل، ويراقب الوضع المثير للحمية والدافع للرغبة في إحقاق الحق، فرآها وأختها تحبسان غنمهما، وتنتظران الرعاة من الرجال لكي يسقوا غنمهم، وبعد أن سقى الرعاة غنمهم أغلقوا فوهة البئر ببلاطة ثقيلة تحتاج الى قوة مضاعفة لإزاحتها، ولاحظ سيدنا موسى أن الفتاتين قد مسهما الظلم واللؤم من قبل الرعاة والقصد السيء استخفافاً بهن، لما كان يعتريهما من حياء لم يحترمه ويقدره الرعاة، ولضعف قوتيهما كإناث يتوجب عليهن إزاحة البلاطة، واستخراج الماء بالدلو لسقي المواشي. فتحرك ضميره النقي من الشوائب الدنيوية، وكان ذلك هو الوازع الوحيد الذي حركه، وذلك انتصاراً لضعف هاتين الفتاتين واحتراماً لحيائهن من المطالبة بحقهن، أمام الظلم واللؤم من رعاة يفتقدون الضمير وروح الغيرة على العرض، ويكنون استخفافاً بالنساء وهضم لحقوقهن. فنزع البلاطة عن فوهة البئر، وسقا لهن الغنم دون أن يستغل لهن حاجة، ودون أن يمن عليهن، ودون أن ينظر اليهما نظرة فيها قلة حياء، نظرة خالية من القصد السيء تجاههن كإناث. فأعجبت الفتاتان بقوته، وبشهامته ونخوته ورجولته. ونقاء ضميره من كل شائبة، فقصت إحداهن قصته لأبيها، وطلبت من أبيها أن يعينه بتلك المهنة الشاغرة. وهنا تبرز حكمة الأنبياء الصالحين، حيث كان والدها لماحاً، فهم ببصيرته وتفهم رسالة من إبنته التي أحسن تربيتها ووثق برأيها، كيف لا وقد تربت في بيت النبوة، فهم رسالة مفادها أن إبنته أعجبت بهذا الرجل، فاستخدم حكمته واستدرك الأمر، فسألها لكي يتحقق كما رُوي (ربما كان هذا الحوار مُتخيلاً من الرواة): وما أدراك بقوته وأمانته؟
ردت عليه: أما قوته فإنه رفع حجراً من رأس البئر لا يرفعه الاّ عشرة، وأما أمانته فإنه قال لي "إمشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك". تحقق شعيب من الرجل بناءً على توصية من إبنته التي يثق بها ويسعى الى مصلحتها، ويتطلع الى زواجها من رجل بهذه المواصفات التي تتمناها كل فتاة. فوافق على توصية إبنته التي أجرت المقابلة.بعد نجاح المتقدم للوظيفة في امتحان المؤهلات وامتحان الأمانة.
ويبدو من السياق القصصي أن شعيباً كان في مأزق ولكن الله يسّر له الحل الذي يخرجه ويخرج موسى من مأزقيهما ومأزق موسى هو غربته القسرية عن وطنه لاجئاً لا مأوى له، وأما مأزق شعيب فهو:
• بلغ من الكبر ما جعله غير قادر على رعاية الأغنام
• أوكل هذه المهمة الشاقة لإبنتيه، وهي مهمة لا تتناسب مع الإناث من جميع النواحي، وهو بحاجة لرجل مستأجر ليقوم بهذه المهمة التي تشق على الإناث،
• وجد في موسى هذا الرجل الملائم للمهمة حيث لديه القوة والأمانة.
• لا يملك المال لقاء عقد الإستئجار
• كيف له أن يدخل رجلاً غريباً لبيته وفيه إبنتان عازبتان
ربط الأحداث والأقوال والشهادات،والرسائل المستنتجة مع بعضها البعض للخروج من هذا المأزق، وخرج بحكمته بحل يرضي كل الأطراف، ويتفق مع مصالح الجميع ورغباتهم ويحل كل إشكالاتهم، فما كان منه الاّ أن عرض عليه الوظيفة بعقد يكفيه قوته، ويفوز بإحدى إبنتيه زوجة له،بمهر لإبنته يقدر بخدمة موسى لهثمانيحجج (سنوات). وكان هذا هو العرض المقدم لسيدنا موسى اللاجيء المهاجر من وطنه من ظلم فرعون، لقاء شغله الوظيفة بقوله تعالى"قال إني أريد أن أنكحك إحدى إبنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج، فإن أتممت عشراً فمن عندك، وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين". فضرب شعيب عدة عصافير بحجر، شغل الوظيفة الشاغرة بمن هو كفءٌ لها وأمين في ممارستها، وزوج إبنته من رجل قوي أمين أعجبت به، واطمأن على بناته من بعد وفاته، وكان عقداً عادلاً وناجحاً فيه الوفاء والأمانة، وحسن الإدارة والحكمة.حيث أتم موسى عشر حجج كمهر لزوجته موفيا بشروط العقد وزاد من عنده عامين اكراماً لزوجته ولوالدها الصالح.
وما الضير في أن تعجب الفتاة التي أحسن أهلها تأديبها بشاب يبادلها الإعجاب ترى فيه زوجاً صالحاً لها ضمن حدود الأخلاق والقيم، وتبدي موافقة غير مباشرة عليه يفهمها الأهل بالإستنتاج. فبعض آباء اليوم يحرمون ذلك على بناتهم، ولو حدثت قصة موسى وشعيب وابنتيه اليوم مع أي أب لأخضع إبنته للتحقيق، كيف تعرفت عليه؟ ومنذ متى تعرفينه؟ وهل تحدث معك؟ وتصير قصة درامية نهايتها كارثة.وهذا نتيجة لفقدان الثقة بين الآباء والأبناء لعدم العناية بتربيتهم التربية السليمة المبنية على الصراحة والشفافية ومنح الثقة، في هذه القصة درس إداري في إدارة الموارد البشرية، ودرس تربوي في تربية الأبناء وهو تعويدهم وخاصة البنات على مصارحة الأهل بكل ما يواجههم في حياتهم لكي يقولوا الحقيقة والصدق، وكذلك إشراكهم في صنع القرارات والأخذ برأيهم وبتوصياتهم وعدم الإستهزاء بهم لعدم رشدهم. وفيها درس إجتماعي في العلاقات.
من المناصب الحساسة الفاعلة في المجتمعات المناصب الحكومية العليا التي تقع في دائرة صنع القرار، من رأس الهرم الحكومي الى قاعدته، فتؤثر في مصائر الشعوب وفي مقدراتها، وما يحدث اليوم ونراه ماثلاً أمامنا هو رص البرنامج الإنتخابي للمرشح الرئاسي أو البرلماني بشعارات ولافتات ونظريات سياسية براقة تعلو في السماء كالشهب من حبكها لغوياً وصياغتها وملامستها لحاجات الناس الماسة، ومطابقة المرشح لها ظاهرياً ومعاكسته لها باطنياً، فيروج لها بحملات دعائية تستهوي القلوب برونقها وشفافيتها وعذريتها وعطش الناس اليها، وخاصة الشعارات الدينية من وحي الرسالات السماوية، التي تركز على العدالة والتنمية والإصلاح وحقوق الإنسان، ويمولها بالمال السياسي لتسويقها بضاعة تبدو في ظاهرها طيبة ثمينة وبداخلها سوسٌ ينخرها وعث يبليها، ويعرضها في أسواق شعبية في أوساط الطبقة الفقيرة المحتاجة،وطبقة البسطاء من المجتمع وهم الغالبية في مجتمعاتنا العربية، ولكن هذه الشعارات تفتقد القدرة على التطبيق واقعاً على الأرضليحس بها الناس ويلمسونها فاعلة ومؤثرة تأثيراً إيجابياً في حياتهم، نظراً لتناقض الدين ومبادئه وقيمه وتنافرهامع المفاهيم والممارسات السياسية الجارية في العالم هذه الأيام، سيما ونحن دول ومجتمعات غير مكتفية ذاتياً، ومتأخرين عن الأمم التي كنا نسبقها قبل عدة عقود، ومعتمدين على غيرنا في قوتنا اليومي، مثل هذا المرشح الذي يرفع الشعارات الدينية والنظريات المثالية للفوز بمنصب سياسي كمن يخلط الطاهر بالنجس، وكمن يمزج الأمانة بالخيانة، فيخفي النجس بداخله ويظهر الطهارة بمظهره الخارجي، ويتظاهر بالأمانة في خارجه، بينما تعشعش الخيانة في أحشائه، وكل هذا النفاق والتموج والتلون والمواربةوعدم الإستقامة من أجل الوصول الى المنصب السلطوي، لإشباع شهوة تنهشه كنهش الجوع للمعدة.
حيث أن المصالح هي السائدة وهي الفيصل والحكم في التعاملات والإدارة الداخية والخارجيةللبلاد هذه الأيام،ولا اعتبار للأمانة وللقيم والأخلاق، ونحن كأمة وأوطان عربية ممزقة، عندنا المصالح الكبرى، ولكننا لا نستطيع مبادلتها من الأقوياء الذين يستنزفونها بالمنافع التي تعود علينا نظراً لفرقتنا وضعفنا وهشاشة عظامنا وتخلفنا.
وعندما يفوز المرشح بالمنصب ينسى كل هذه الشعارات الواردة في برنامجه الإنتخابي. وينسى كل من قدم له الدعم والمساندة للفوز بالمنصب.ويكشر عن أنيابه يغرزها في كل من يعارضه للإمساك بتلابيب الحكم والسلطة، ويتمتع بمميزات المنصب بقرارات مجحفة دون أن يفي المنصب حقه ومتطلباته.فيفرض سيطرته وإحكامه على كرسي الحكم، متطلعاً للإلتصاق به الى الأبد، وينسى أنه سيموت ويمضي، ولن يبقى وراءه الاّ سجله في التاريخ، وكل ذلك لأنه وصل الى المنصب بطرق محرمة في صلب كل الديانات السماوية، وغير مشروعة،وهذه الوسائل المستخدمة للوصول الى المنصب غطت على عدم كفائته واستحقاقه له. حيث يريد المنصب ديكوراً كتحفة كمالية تتناسب مع ثرائه وجاهه الذي اكتسبه إما بالوراثة عن الأب أو عن الحزب أو بالحرام والفساد وخرق القوانين، والتعدي على حقوق المسحوقين من المجتمع. وتلقى شهوة السلطة صدى في نفسه بشعوره بالزهو وبالكبرياء، وبالجاه المبني على أسس واهية وأعمدة واهنة. مدفوعاً بشهوة السلطة وممارستها على الناس بفوقية وتعالٍ وتسلط.
ومن المناصب الحساسة بالمجتمع والتي كانت حقاً تقشعر لها أبدان المؤمنين من السلف الصالح عندما توكل اليهم هي مناصب القضاء، حيث يُحكم فيها على مصائر الناس، فإن كان الحكم الصادر عن القاضي ظالماً بجهالة بالمهنة التي سعى اليها بكل الوسائل وامتطاها دون استحقاق، أو بعلم عن سابق إصرار فسيكون القاضي مجرماً، والمحكوم عليه ضحية ستبقى معلقة في رقبة القاضي الى يوم يبعثون، ولن يتنازل الله يوم الحساب في حقوق العبادالمغتصبة الا بصفح العباد المظلومين، وربما يحل به عقابٌ سريع في الدنيا عدا عن العقاب الآجل بالآخرة، وكم من الضحايا كانت خطاياها في رقاب قضاة لا يألون جهداً في المواربة عن الحق من أجل رشوة أو خدمة وما شابه ذلك. فتعمى الأبصار والقلوب من أجل حاجات دنيوية زائلة.
المنصب تكليف ومسئولية ثقيلة وعبء على كاهل صاحبه، وليس تشريفاً وزهواً وكبرياءً وجاهاً يُنتزع إغتصاباً من الآخرين ممن يستحقونه، وإن كان المنصب هدفاً فسوف يتولاه من لا يستحقه بوسائل غير مشروعة، وهنا ستكون القرارات خاطئة ومدمرة، وستظل الأمة في تخلفها وجهلها تدور في حلقة مفرغة. وإن كان المنصب وسيلة لتفريغ المكتسبات العلمية والمهارية بمهنية وأمانة في قنواتها الصحيحة التي تصب للصالح العام فسوف تضع الأمة أولى خطواتها على طريق التنمية والنهوض والتطور واللحاق بالأمم الناهضة.
المنصب يتطلب الكفاءة والأمانة والإخلاص، ولا يتطلب النفاق والفساد ، المنصب يتطلب ضميراً وطنياً حياً، وشخصاً يحب لغيره كما يحب لنفسه، ويؤثر الصالح العام على الصالح الخاص، ويتطلب التزاماً بأخلاقيات المهنة.
وبإختصار المنصب هو "الشخص المناسب في المكان المناسب" دون اغتصاب لحقوق الأكفاء من قبل المقتدرين مادياً غير الأكفاء، المنصب ليس تركة يتركها الوالد للأبناء ليرثوها من بعدده، وليس تحفة لإكمال صوالين الأثرياء، وليس حقاً خاصاً لمن شغله، المنصب حق عام يستفيد منهعامة الناس. ولا تقتصر عوائده على إفادة المفسدين في الأرض من أهل الرشوة (فالراشي والمرتشي بالنار). وهنا يبرز دور المجتمع في محاربة الفساد والحد من المفسدين، ويبرز دور المسئول الأمين في محاربة الفساد. مسئولية مشتركة بين المجتمع وأصحاب المناصب التنفيذيين ومن هم في دائرة القرار.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت