رأس المعري
أبو العلاء المعري زنديق، تهمة كانت كافية لمن أطلقها أن يبني عليها حكماً بفصل رأس الشاعر عن جسده، مسرح تنفيذ الحكم مدينة معرة النعمان في سوريا، المدينة التي ولد وترعرع ومات فيها الشاعر أبو العلاء المعري، هنالك يتم تنفيذ الحكم بقطع رأس تمثال ابن المدينة، ما كان يجب على المدينة أن تحتفظ بتمثال لابنها الزنديق، كان عليها أن تقطعه إرباً حتى وإن كان ذلك بعد مرور قرون عدة على وفاته، هكذا خيل لمن أقدم على تلك الفعلة، هم يعتقدون بأن التاريخ يجب كتابته من جديد، تاريخ لا تتضمن صفحاته ما يوحي بأن الشاعر ولد ومات فيها، ليسوا بحاجة إلى شاعر تنسب المدينة إليه أكثر مما ينسب إليها، هكذا فعل "الثوار" بشاعر تضمنت الكتب المدرسية الكثير من أشعاره، والحكم الصادر بحق المعري يفرض علينا أن ننزع من ذاكرتنا ما حفظناه من شعره، فلا يجوز لكلمات "زنديق" أن تتلاعب بعقولنا، وعلينا أن نحذر بألا يخرج على ألسنتنا بيت شعر له، لأنها قد تكون كافية لنعتنا بالزندقة وتوقيع عقوبة فصل الرأس عن الجسد لمرتكبها، وعلى الصعيد ذاته مطلوب من وزارات التربية والتعليم في الوطن العربي أن تسقط من كتبها المدرسية ما يمكن أن يشير إليه، وأن تسارع وزارات الثقافة لملاحقة كل قصاصة ورق تحمل كلماته في مكتبة عامة أو خاصة.
على صعيد آخر وليس بعيداً عن سوريا وما يحدث بها، يبدو أن الثوار في مصر التقطوا الرسالة، وكي لا يطال أم كلثوم ما طال المعري، فقد سارعوا إلى وضع الحجاب على تمثال أم كلثوم بميدان التحرير بمدينة المنصورة، على الأقل يمكن لهم بذلك أن يجنبوها تهمة الكاسيات العاريات، وإن كان ذلك لن يشفع لها تهماً أخرى أخفها وطأة الردة، مؤكد أن الكثير ممن غابوا عنا ترتعد اليوم مفاصلهم من المطاردة الساخنة لهم ولما تركوه من تراث، ولا يتوقف الأمر عليهم بل علينا نحن أن نباشر دون إبطاء في التخلص من موروثاتهم، على قاعدة اجتنبوا الشبهات، فثورة الشك يمكن أن تقود مقتنيها إلى خانة الإلحاد، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من عظائم الأمور التي لا ينفع معها القول ولا الفعل.
الشيء الذي بات علينا أن نتوقف حياله بكثير من الجدية حالة الفلتان في الفتوى الشرعية، ويخطئ من يعتقد أن التيارات الليبرالية وحدها من يدفع ضريبتها، بل أن التيارات الإسلامية الوسطية ستتحمل القسط الأكبر من نتائجها، وإن كانت الأخيرة قد سلكت ذات المسار في صراعها السياسي مع التيارات الليبرالية، فقد بات من الواضح اليوم أن التيارات الدينية المتشددة تضعها في ذات خانة الاتهام، وبطبيعة الحال الفتوى لا تنطلق من منظور وجهة النظر، بل لها تبعاتها ومساراتها التي تقود أحياناً إلى إباحة دماء المسلمين، ولعل ما شهدته الساحة المصرية مؤخراً من فتوى تبيح قتل قيادة جبهة الإنقاذ يصب في ذات الاتجاه.
إننا اليوم بحاجة لضبط الفتوى الشرعية، وأن تقتصر على الجهة الرسمية المخولة بها، فلا يعقل أن يمتلك ناصيتها من يفتقد للمقومات الفقهية المؤهلة له لهذا الأمر الجلل، وبات من الواضح أن تسخير الدين لخدمة الأهداف السياسية والحزبية جلب على الأمة وبالاً ستعاني منه لسنوات، حيث تغيرت الفتوى طبقاً للمتغير في الواقع السياسي، فما كان بالأمس حلالاً بات حراماً، الخطورة لا تكمن في الفتوى التي ينطق بها شيخ من على منبر أو داخل حلقة مغلقة بقدر ما تتعلق بما ينقله الفضاء الرحب إلى ملايين البشر، والخطيئة لا يتحملها شاب مندفع غيور على دينه عكف على العمل بالفتوى وتنفيذها، بقدر ما يتحمل وزرها من جاء بها بهدف منفعة دنيوية أو من ضحالة علم أبعده عن جادة الصواب.
بقي أن نقول أن جز رأس الشاعر "أبو العلاء المعري" لن يعيد لنا فتح القسطنطينية، ولن ندخل به بوابة الخلافة الإسلامية، ومؤكد ليس له علاقة بتحرير الأوطان والمقدسات.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت