تدوير الأنظمة الحاكمة في دول الربيع العربي

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج


تدوير مادة السلعة المستهلكة (الخردة) هو جمعها من النفايات والمخلفات وإعادة تصنيعها إما بصهرها أو إخضاعها لسلسلة عمليات تصنيعية على مراحل، لإنتاج نفس السلعة المستهلكة من نفس المادة بثوب أو وجه جديد مع فقدانها بعضاً من خصائصها الأصلية.بمعنى إعادة استخدام المخلفات لإنتاج منتجات أخرى أقل جودة من المنتج الأصلي. حيث تتعرض المواد المدورة الى عمليات إحتراق وتفاعلات كيميائية واحتوائها على شوائب وصدأ تفقدها بعضاً هاماً من مواصفاتها الأصلية المطلوبة لإستخدامها استخداماً آمناً.
فمعظم الأنظمة العربية الحاكمة بعد الإستقلال، وبعد فشلها في ايجاد حلول لمشاكل شعوبها على كل الصعد، والتي تعاني منها الشعوب منذ استلام تلك النظم العقيمة لزمام الحكم وحتى يومنا هذا، ولعدم قدرتها على النهوض والتطوير والتنوير في كل مجالات الحياة، باتت الثورات الشعبية عليها مبررة وقائمة، بعد أن صبرت عليها شعوبها صبر أيوب وعانت من إستبدادها بالحكم، ومن قمع الحريات وإضطهاد النخب الوطنية، والعالم الغربي يدرك ذلك، لأنه يراقب الأوضاع العربية السياسية والإقتصادية عن كثب نظراً لمصالحه الهائلة في المنطقة العربية، ويتفهم هذه الحقيقة ويعيها تماماً. لذلك فعلى الرغم من ولاء تلك الأنظمة وخدماتها الجليلة التي قدمتها للغرب، لم يتذرع الغرب في تشجيع التغيير متماشياً مع رغبات الشعوب المنكوبة بحكامها المتكلسين بحيث يبقى محافظاً على مصالحه بالمنطقة. ولم يكن مفاجئاً مطالبة الغرب للحكام العرب الذين غابوا عن سدة الحكم بالتنحي والرحيل والإستجابة لمطالب الشعوب بالتغيير. فقد استهلكوا وانكشفت عوراتهم، وصاروا بمثابة الخردة التي تلقى في مخلفات التاريخ التي صدأت وانبعثت منها الروائح الكريهة.
وهنا تنبه الغرب الأمريكي والآوروبي معاً لحتمية التغيير، وسوّقوا له في إعلامهم، وجندوا له رجال مخابراتهم، وأحلافهم من العرب المستغربة، ومن المعارضة العربية التي ترضع من حليبهم وتقيم في ديارهم تحت عنوان اللجوء السياسي، ومن الأحزاب العربية المواطنة المعارضة التي تشتهي الإستيلاء على السلطة منذ زمن قديم، دون أن يكون لها برنامج نهوض وطني، وكانت تقاتل الأنظمة القائمة من أجل الإستحواذ على السلطة، فتدخل الغرب بجناحيه الأمريكي والآوروبي في بعضها بكل إمكانتهم المادية واللوجستية والإستخباراتية سراً، وفي بعضها من الدول العربية الغنية بالنفط جيشوا الجيوش ضد حلفائهم السابقين من الحكام العرب، وتدخلوا بشكل سافر يعيد للأذهان تاريخ الإستعمار الخشن، من أجل أن يحرفوا ويحولوا إتجاه مسار التغيير المفترض من وجهته الصحيحة بإتجاه مصالح الشعوب الثائرة، الى إتجاه مصالحهم للحفاظ عليها من الضرر، فتدخلوا بالثورات الشعبية العربية بالعلن المادح المتغزل بتلك الثورات وبالشعوب الثائرة، وبالخفاء الذي يضمر الشر وسوء النية لمقاصد التغيير، وصفقوا لها ووصفوها بالربيع العربي على غرار الربيع الآوروبي الشرقي. بينما هم في واقع الحال يريدون تغيير وجوه وجلود الحكام فقط مع الإبقاء على المضامين وجذب قلوبهم وعقولهم وأنويتهم الداخلية لمجالهم المغناطيسي كما كان الأسلاف من الحكام الذين تم إقصاؤهم من السلطة. خاصة وبعد التخريب والدمار الذي حدث في بلدان الربيع العربي، وتفكك الدولة ومؤسساتها، وانعدام الأمن، وتردي الإقتصاد، يجعل الحكام الجدد بحاجة ماسة الى الغرب لترميمها، مما يدفع الحكام الجدد الى الإستنجاد بالغرب والتقرب اليه أكثر من قرب الأسلاف لحل المشاكل المتراكمة منذ القدم، والمشاكل التي استجدت بعد التخريب والتي ساءت أمنياً وسياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً. وتحتاج الى استعمار جديد يُستدعى رسمياً من ولاة الأمر للعودة القوية مستشرياً في كل المفاصل والعروق، وتحت مسمى الإستعمار الناعم الناجم عن الفوضى الخلاقة كما اسموها.
حدثت الثورات العربية على أنظمة الحكم الإستبدادية، وأطاحت برؤوس الحكم، وانتظرت الشعوب العربية تستطلع مظاهر ومضامين التغيير، ولجأت النظم الجديدة التي أفرزتها الإنتخابات الى وصفة الغرب السحرية باللجوء الى الإنتخابات الديمقراطية وتعديل الدستور وشعوبها تتخبط في حالة ضياع، وقبل أن تركد مياه الثورة، وفي ظل أوضاع لم تتبلور بعد، ولم يتضح فيها جنين المخاض، ولم تفرز الخبيث من الطيب في تلك الثورات، لذلك كانت نتائج الإنتخابات مخيبة للآمال، فقد غاب عنها البطل الحقيقي لتلك الثورات، وهم النخب الفكرية والمهنية الوطنية المثقفة والتي كانت مضطهدة في عصر الحكام السالفين، وغاب عنها عنصر الشباب الذي هو عود الثقاب المشعل للثورة وبمثابة العمود الفقري لها، لأنهم يفتقدون الى القيادة الموحدة وإلى التنظيم والخبرة، فأفرزت الإنتخابات بردة فعل تلقائية سريعة من الشعوب معاكسة في الإتجاه لنهج النظم السابقة وممارساتها تيارات من المعارضة الأيدلوجية القديمة، التي ترفع الشعارات الدينية المستقطبة للعامة والبسطاء من الشعوب، والتي كان يعلو منسوب شعبيتها كموجة عارضة علت على الأمواج الوطنية المشتتة والمضطهدة، حيث أدرك الغرب أنها قادمة الى السلطة لا محالة، ففتح معها أبواب الحوار المشرعة العلنية، بعد أن كانت تجري سرية منذ نشوئها، نظراً لقدم تنظيمها وامتلاكها للمال السياسي، فحصلت على إشارة خضراء من الغرب لتولي السلطة بعد تفاهمات على الحفاظ على مصالحه بالمنطقة، حيث كان يتفاوض معها إبان الثورة ليضمن استمرارية ولائها له، وتحالفه القديم معها، وينحصر برنامجها في نظريات دينية جاذبة للأفئدة، تفتقد الى برامج تنموية تستند الى الواقع والى آلية للتطبيق، وكل أهدافها تنحصر في تطبيق الشريعة الإسلامية كما كانت مطبقة في عهود السالفين التي كانت سائدة قبل ألف وأربعمائة عام تقريباً، دون الأخذ بعين الإعتبار ما طرأ على الحياة من تغيير وتطوير وتحديث وتغيير أساليب الحياة والإقتصاد خلال تلك الفترة الزمنية الطويلة، وكانت وما تزال هذه التيارات تضمر العداء للنظم السابقة التي كانت تعيش في كنفها وتحت عبائتها مهادنة تارة ومعارضة بالصوت تارة أخرى تتحين انتهاز الفرص للإنقضاض على السلطة، وكانت تتفاوض مع النظام القائم قبل سقوطه على المناصب في حين كانت الثورة قائمة ومشتعلة وهم على حياد منها، كما أنهم يحملون ويضمرون في نفوسهم مشاعر الإنتقام لأنفسهم من إضطهاد النظم السابقة لهم، ولا يملكون برامج وطنية للنهوض بالشعوب، فتخبطوا في إدارتهم لدفة الحكم، وتصرفوا بإستبدادية تفوق استبدادية السالفين وزيادة على ذلك بإقصائية سافرة للغير. ونسوا أنهم لم يفوزوا في الإنتخابات بنسبة ساحقة تبرر لهم تفردهم بالسلطة، وإنما فازوا بالإنتخابات بنسبة متدنية وبأصوات من المنافسين صبت لصالحهم مكرهة، نظراً لإنحصار المنافسة بين رمز من رموز النظم السابقة وبين مرشحهم. وأبدوا تقرباً للغرب وحليفتهم إسرائيل أكثر من تقرب الأنظمة السالفة. وكانت النتائج مخيبة لآمال الشعوب بإفراز فئة تعمل على التفرد بالسلطة، وتفتقد الى المهنية الإدارية والى الحنكة السياسية والخبرة الإقتصادية.
هذا ما حدث في دول الربيع العربي، فقد عمل الغرب بجناحيه الأمريكي والآوروبي وتدخلاته السرية والعلنية وسخر كل إمكانياته المادية والمعنوية، وبمساعدة العرب المستغربة، والمعارضة العربية المنفية المدجنة في أحضان الغرب، لإدارة عملية تدوير للأنظمة الحاكمة التي كانت قائمة وذلك لإنتاج وتصنيع أنظمة من نفس الصنف أقل جودة من النظم البائدة الأصلية، وأكثر ولاءً للغرب، وحفاظاً على مصالحه.
لكن المخاض طويل، وكان لا بد من قيام هذه الثورات، ولا بد المرور في الأنفاق المؤدية الى الفضاء، لتجربة كل فئة أو طيف من فئات وأطياف المجتمع، واختبار وطنيته وحسن نيته، حتى يأت اليوم الذي تعي فيه الشعوب العربية مصلحتها المغيبة عنها، والتي هي كطائر الفنيق يرفرف في السماء بين الغيوم الملبدة، والضباب الكثيف الذي يحجب الرؤيا، ولكن سيأتي اليوم الذي سينقشع فيه الضباب، وتتحول الغيوم الى قطرات من الماء المغيث، تسقط مياهاً من السماء الى الأرض، للتحضير لربيع عربي حقيقي، يخلو من التدليس والزيف، ويكفي في هذه المرحلة أن الشعوب العربية علقت الجرس بالثورة التونسية المباركة، وتجرأت أن تقول للإستبداد والقمع والرضوخ لا وألف لا. ولا بد من إنبعاث طائر الفنيق العربي من الرماد.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت