مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف بالخليل ما زالت مستمرة
مجزرة نكراء أضافها المجرم باروخ جولدشتاين إلى سجل إسرائيل الحافل بمجازرها البشعة ضد الشعب الفلسطيني الصابر المرابط في وطنه عبر العقود الماضية ؛ والتي أهّلتها بغير منازع لدخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية ، دماء زكية سفكها الحقد الصهيوني المسعور في دقائق معدودة بين يدي أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام وأبنائه وآله ، سطور حمراء خطَّتها يد الغدر في ذاكرة الأيام .
اعتاد أئمة الحرم الإبراهيمي الشريف بالخليل تلاوة سورة السجدة في ركعتي صلاة الصبح يوم الجمعة ، وهذا ما كان يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان الخامس والعشرين من شهر شباط قبل تسعة عشر عاماً ، فقد وقف المصلون الآمنون صفوفاً خلف إمامهم ، قرأ الإمام سورة السجدة ، فلما بلغ قوله تعالى { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } السجدة 15 خرَّ ومعه المصلون لسجود التلاوة ، وبدأوا بالنهوض لإتمام الصلاة فإذا بالقنابل تلقى على الأرض فتفجر بين أقدامهم ، وإذا بالأسلحة الرشاشة تمطرهم بالرصاص من كل جانب ، فسقط عشرات الشهداء ، تدافع المصلون منهم من يحاول الهروب من النيران فلا يجد أمامه غير الرصاص ، ومنهم من يحتمي بالأرض فلا ينجو من حرق القنابل ، ومنهم من أقسم أن يقتص من السفاح المجرم ، ثم أُغلقت الأبواب الخارجية للحرم فمنع الدخول إليه والخروج منه .
سرى خبر المجزرة المروعة خارج الحرم سريان النار في الهشيم ، بمكبرات الصوت من على مآذن المساجد وبوسائل أخرى ، فهرعت جموع المواطنين إليه حفاة مشاة مترجلين وركباناً ، وصلت سيارات الإسعاف إلى مسرح الجريمة ، أعلنت المشافي حالة الطوارئ ، تدفقت الطواقم الطبية من أطباء وصيادلة ومخبريين ومسعفين وسائر المواطنين ، وتواصلت عمليات الإنقاذ ، لقد فاقت الجريمة إمكانيات المدينة والقدرة الاستيعابية لكافة مؤسساتها الصحية .
كانت المجزرة مسلسلاً من القتل استباح الدم الفلسطيني ؛ ابتدأ في المحراب وامتد إلى مداخل الحرم والسُّلَّم المؤدي إليه ووصل إلى الشوارع والطرقات ومحيط المشافي ؛ فطال رصاص الظلم والغدر مَن هبُّوا للتبرع بالدم وإنقاذ الجرحى ونقل المصابين ، حتى المقابر صارت ساحات للموت فلم يسلم منه الذين شيَّعوا الشهداء بل دُفنوا معهم بعد لحظات ؛ فزاد عددهم عن أربعين شهيداً ارتقوا إلى بارئهم شهداء ويغفر لهم بأول قطرة دم تراق ؛ قال صلى الله عليه وسلم ذاكراً خصال الشهيد { يغفر له بأول دفعة من دمه } رواه الطبراني ، أما الجرحى والمصابون فقد زاد عددهم عن مائة وثلاثين .
يوم لا ينسى في تاريخ مدينة خليل الرحمن الباسلة التي خرجت ثائرة ، اشتعلت المظاهرات في قراها وبلداتها بنيران الغضب ، وأعلنت كافة المدن الفلسطينية النفير العام بعد وصول الخبر إليها ، أرسلت سيارات إسعافها إلى المدينة المنكوبة ، لكن أنى لها الدخول وقد أعلنتها سلطات الاحتلال منطقة عسكرية مغلقة ، فانطلقت جماهيرها في كل مكان ، وامتدت الشرارة إلى داخل فلسطين المحتلة عام 48 ، وتفجر بركان الغضب واشتعلت المدن ناراً تحت أقدام الطغاة الغاصبين ؛ في مسيرات ومظاهرات ومواجهات دامية ، فتصدت لهم قوات الاحتلال وجنودها المدججون بالسلاح وعرباتهم العسكرية المجنونة ؛ وفتحوا عليهم الرصاص والنار فسقطت كوكبة جديدة من الشهداء غيلة وغدراً .
وكما هو معهود من سلطات الاحتلال الغاشمة يتنصل جيشها من دوره في ارتكاب الجريمة ؛ لكن كل الأدلة والأحداث وإفادات الشهود حتى من اليهود أنفسهم تؤكد مسؤوليته الكاملة عمّا جرى ، فقد كان الرصاص ينهمر على الناس من كل صوب ؛ ولم يقدم الجنود أية مساعدة للمصابين بل أعاقوها فلم يسمحوا لسيارات الإسعاف بالوصول إلى مداخل الحرم ، ومنعوا المصلين من نقل الجرحى والمصابين ، كما أن استعراض الأحداث والاستفزازات التي سبقت الحدث تدل على التخطيط المبيت لارتكابها ، فقد مهدت لها بنشر حديث نبوي بين الناس ينص على أن شهر رمضان إذا كان فيه خمسة جمع وإذا كان منتصفه يوم جمعة فهناك مصيبة كبرى ستحل بالمسلمين فعليهم لزوم بيوتهم للنجاة ، وكثير من جنود جيش الاحتلال قالوا للسكان المحيطين بمنطقة الحرم [ لا تأتوا غدا إلى صلاة الصبح ، لقد حذرناكم ] .
يضاف إلى ذلك أن الأحداث بعد المجزرة أيضاً تدل على ذلك ؛ فقد عوقب أهل الخليل التي ارتقى أبناؤها البررة إلى العُلا بالاعتقالات ومنع التجول وفرض الحصار ، أما المجرم جولدشتاين فقد كافأه شعبه ودولته بإقامة نصب تذكاري له وباعتبار قبره مزاراً ، وباتخاذه مثلاً أعلى وبطلاً قديساً ، وبتمجيد جرمه المشهود .
لقد ارتكبت مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف لهدف اتَّضحت معالمه هو الهيمنة عليه وتهويد قلب مدينة الخليل ، فبعد انقضاء فترة حظر التجول الذي فرض على المدينة وأهلها مدة أربعين يوماً للحفاظ على أمن المستوطنين وحياتهم ؛ وبعد إغلاق الحرم لأكثر من شهرين ؛ فوجىء أهل الخليل بإجراءات تهويد الحرم الإبراهيمي الشريف ، فقد استغلت قوات الاحتلال هذه الفترة بتقسيمه وتهويد الجزء الأكبر منه ، وتحديد عدد المصلين وأوقات دخولهم إليه ؛ بينما يسمح لليهود بالدخول والخروج متى شاءوا ، ووضعت على مدخله الوحيد المخصص للفلسطينيين بوابات تفتيش أمنية دقيقة .
ثم تواصلت المؤامرات على هذه المدينة الأبية وعلى الحرم الإبراهيمي الشريف حتى اليوم ، فالأذان يمنع من على مآذن الحرم ، ويمنع بعض الخطباء الخطابة فيه والتدريس ، وكثيراً ما يغلق في وجه المصلين فيمنعون دخوله والصلاة فيه ، ويمنعون وصوله بإغلاق البوابات الحديدية المزروعة في الطرق الموصلة إليه ، ووضعته سلطات الاحتلال الإسرائيلية على قائمة التراث اليهودي ، واستولت على مفاتيح الأبواب الداخلية لقاعاته وأروقته ؛ بحيث تتمكن من إغلاقها على المصلين والاستفراد بهم وقتما تشاء ، مما يعني أنهم عرضة للقتل والعدوان في أية لحظة ، وقامت أيضاً ببناء غرفة من الحديد والحجارة في صحنه ، وبتركيب زجاج مضاد للرصاص على شبابيك ضريح سيدنا إبراهيم عليه السلام ، وبوضع الكراسي وأدوات العبادة اليهودية في صحنه وفي القاعة اليعقوبية .
وأما في محيطه فقد غرست البؤر الاستيطانية في قلب البلدة القديمة من المدينة وأغلقت شوارعها ، وارتكبت فيها أفظع الانتهاكات لحقوق الإنسان : فقتلت فيها الأنفس وأزهقت فيها الأرواح البريئة ، وحظر التجول على أهلها يستمر فرضه لفترات طويلة ، والحصار الاقتصادي المتواصل أدى إلى شلّ الحركة التجارية في أسواقها ، والاعتداء مستمر على ممتلكات أهلها بهدم المباني الأثرية والتاريخية في أبشع مذبحة تستهدف طمس معالمها الحضارية وتغيير هويتها العربية الإسلامية ، وبفتح طريق استيطاني يربط بين مستوطنة قريات أربع والحرم الإبراهيمي الشريف وجميع البؤر الاستيطانية لتحويلها إلى مدينة يهودية .
إننا نؤكد بطلان جميع إجراءات سلطات الاحتلال في الحرم الإبراهيمي الشريف وفي المسجد الأقصى المبارك ، وتنافيها مع المبادئ التي قررتها كافة الشرائع الإلهية والاتفاقيات والمواثيق الدولية والتي تمنع إجراء أي تغيير في الأراضي المحتلة ، وتحرم ازدواجية العبادة في مكان واحد لأكثر من دين ، فالحرم بجميع أجزائه وأروقته وقبابه وأبوابه مسجد خالص للمسلمين لا حق فيه لغيرهم بتاتاً .
إن مدينتنا الصامدة التي شهدت مذبحة الفجر ووارت شهداءها ثراها المبارك عاودت الوقوف بثبات ، وستبقى عربية إسلامية بجهود أبنائها المخلصين الأوفياء ؛ الذين يعاهدون الله على حمايتها والتمسك بها والدفاع عنها ، ومواصلة إعمارها والتسوق من أسواقها والمواظبة على الصلاة في حرمها الإبراهيمي الشريف ليبقى مسجداً عامراً بالمؤمنين يصدع من على مآذنه صوت الحق الله أكبر . فلن تزيدهم المجازر إلا إصراراً على رفض الانكسار ، فإنهم موقنون بأن الحياة الطبيعية لمدينة الأنبياء والصالحين لن تعود إلا برحيل آخر مستوطن وجندي محتل عن أرضها الطهور .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت