محمدٌ عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم..بقلم

بقلم: الشيخ ياسين الأسطل


محمدٌ صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله ، ولد في خير العرب ، اصطفاه الله بالرسالة والنبوة كما اصطفى إخوانه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ، إلا أنه قد ختمت به النبوة ، وأمرت العرب وجميع الأمم بالإيمان به واتباعه عند مبعثه، فلا يقبل الله أحداً يعاديه وينكر نبوته صلى الله عليه وسلم ، وقد قص الله قصته صلى الله عليه وسلم مع المعاندين من قومه من كفار قريش مقرراً ومؤكداً بشريته وعبوديته صلى الله عليه وسلم قال :{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً{89} وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً{90} أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً{91} أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً{92}أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً{93}}[الإسراء: 89-93] .
قال الإمام ابن كثير في هذا الموضع من تفسيره :(...إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به، إنما هو الكفر والمعاندة، كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم، كما قال تعالى: { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } [النساء: 153] وقال تعالى: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } [البقرة: 55] ) .
وفي صحيح السيرة النبوية للألباني رحمه الله قال : ( عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سأل أهل ( مكة ) رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحي عنهم الجبال فيزدرعوا . فقيل له : إن شئت أن تستأني بهم وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم . قال : ( لا بل أستأني بهم ) فأنزل الله تعالى : ؟ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ؟ [ الإسراء : 59 ] رواه أحمد والنسائي ) .
أيها المؤمنون يا عباد الله : قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}(الكهف: 110) .فلا نقول فيه صلى الله عليه وسلم ما قالت النصارى في نبيها عيسى أنه ابن الله ، ولا ما قالت اليهود في العزير أنه ابن الله ، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام ، بل نقول إنه عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله ".
( لا تطروني) من الإطراء ،وهو الإفراط في المديح ومجاوزة الحد فيه،وقيل:هو المديح بالباطل والكذب فيه،(كما أطرت النصارى ابن مريم) أي بدعواهم فيه الألوهية وغير ذلك .
وفي الحديث عند ابن ماجة عن قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : ( أتى النبي صلى الله عليه و سلم رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد ) صححه الألباني .
أيها المؤمنون ،يا إخوة الإسلام :نعم لقد كان صلى الله عليه وسلم بشراً رسولاً ، يعتريه ما يعتري البشر :
فيصيبه النسيان أحياناً في الصلاة ، في عدد ركعاتها : روى البخاري في الصحيح عن إبراهيم عن علقمة قال :قال عبد الله رضي الله عنه : صلى النبي صلى الله عليه و سلم - قال إبراهيم لا أدري - زاد أو نقص فلما سلم قيل له يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء ؟ قال ( وما ذاك ) . قالوا صليت كذا وكذا فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم . فلما أقبل علينا بوجهه قال ( إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين ) .
أو يصيبه النسيان أحياناً في القراءة فيها : روى البخاري في جزء القراءة خلف الإمام عن ابن أبزى عن أبيه رضي الله عنه قال:صلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فترك آية، فقال: " أفي القوم أُبيّ؟ ".فقال: يا رسول الله! نعم، أنسخت آية كذا وكذا، أم نسيتها؟ فضحك،فقال:"بل نسيتها".
وإسناده صحيح؛ وابن أبزى: هو سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى.وأبوه صحابي صغير.
* وقد كان صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي ونفسي وأهلي وولدي ومالي– يصيبه -كبني آدم - المرض والصحة ، روى البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يوعك فقلت يا رسول الله إنك لتوعك وعكا شديدا ؟ قال ( أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم ) . قلت ذلك بأن لك أجرين ؟ قال ( أجل ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيآته كما تحط الشجرة ورقها ) .
* وقد كان يضحك ،وأحياناً يبكي ، ففي الضحك : روى الإمام مالك بن أنس في الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا فقال لا أجد فأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم بعرق تمر فقال خذ هذا فتصدق به فقال يا رسول الله ما أحد أحوج مني ، فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بدت أنيابه ثم قال :كُلْهُ ) .
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : ( كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه يومئذ باليمن، فأتاه رجل فقال شهدت عليا أتي في ثلاثة نفر ادعوا ولد امرأة فقال علي لأحدهم : تدعه لهذا ؟. فأبى ،وقال لهذا : تدعه لهذا ؟. فأبى، وقال لهذا :تدعه لهذا ؟. فأبى . قال علي رضي الله عنه : أنتم شركاء متشاكسون ، وسأقرع بينكم ، فأيكم أصابته القرعة فهو له وعليه ثلثا الدية . فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بدت نواجذه " ) قال الشيخ الألباني : صحيح . عباد الله أيها المؤمنون :
وأما في بكائه صلى الله عليه وسلم وحزنه : – بأبي هو وأمي ونفسي وأهلي وولدي ومالي -
* فقد بكى وحزن لوفاة ولده إبراهيم ، روى ابن ماجه في سننه عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت : - لما توفي ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم إبراهيم بكى رسول الله صلى الله عليه و سلم . فقال له المعزي ( إما أبو بكر وإما عمر ) أنت أحق من عظم الله حقه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب . لولا أنه وعد صادق وموعود جامع وأن الآخر تابع للأول لوجدنا عليك يا إبراهيم أفضل مما وجدنا . وإنا بك لمحزونون ) قال في الزوائد إسناده حسن . رواه البخاري ومسلم وأبو داود من حديث أنس . وقال الألباني حسن .
* وبكى وحزن للمرضٍ أصاب صاحبه سيد الخزرج سعد بن عبادة رضي الله عنه ، فقد روى مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِى غَشِيَّةٍ فَقَالَ « أَقَدْ قَضَى ». قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَكَوْا فَقَالَ « أَلاَ تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ ».
عباد الله :لقد كان صلى الله عليه وسلم رحيما بالمسلمين في العبادات ، ففي الصيام :
روى الإمام مالك في الموطأ عن عائشة رضي الله عنها: ( أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم وهو واقف على الباب وأنا أسمع يا رسول الله إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فقال صلى الله عليه و سلم وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم فقال له الرجل يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي "). وغضب النبي صلى الله عليه وسلم هنا بسبب ظن بعض القوم أنه يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم مخالفة الشريعة فقد قال الرجل يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر .
وفي الصدقة على ذوي الحاجة وأهل الفاقة :جاء في صحيح مسلم عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى صَدْرِ النَّهَارِ قَالَ فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِى النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِى السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ « (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) وَالآيَةَ الَّتِى فِى الْحَشْرِ (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ - حَتَّى قَالَ - وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ». قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ - قَالَ - ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ ».
وفي المعاملات أيضا ، ففي اللُّقَطَة وحفظ الحقوق : روى الإمام أبو داود عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ « عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ ». فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ فَقَالَ « خُذْهَا فَإِنَّمَا هِىَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الإِبِلِ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ - أَوِ احْمَرَّ وَجْهُهُ - وَقَالَ « مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا رَبُّهَا ».
وقد ورد غضبه صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضي الله عنها : فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه : (أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خطب ابنة أبي جهل وعنده فاطمة رضي الله عنها ابنة النبي صلى الله عليه و سلم فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت له : إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك ،وهذا علي ناكح ابنة أبي جهل ،قال المسور رضي الله عنه فقام النبي صلى الله عليه و سلم فسمعته حين تشهد ثم قال : " أما بعد : فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني فصَدَقني وان فاطمة بنت محمد بضعةٌ منى وأنا أكره أن يفتنوها وإنها والله لا تجتمع ابنة رسول الله وابنة عدو الله عند رجل واحد أبدا " قال : فترك علي الخطبة ) .
أيها المؤمنون ،يا إخوة الإسلام : لكنه صلى الله عليه وسلم في كل ذلك راضياً وغاضباً – بأبي هو وأمي ونفسي وأهلي وولدي ومالي - لا يخرج عن العدل إلى الإفراط و التفريط ، ولا يجاوز الصواب والحق إلى الباطل والتغليط ، إلا لحكمةٍ وأحكامٍ تُسْتَقْصَى ، وعِبرةٍ ظاهرةٍ لا تخفى ، ففي الحديث الصحيح عند أبي داود وغيره : عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَىْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِى قُرَيْشٌ وَقَالُوا أَتَكْتُبُ كُلَّ شَىْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِى الْغَضَبِ وَالرِّضَا ، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ: « اكْتُبْ ، فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلاَّ حَقٌّ ».
وقد جات قصته صلى الله عليه وسلم مع أم أنس اليتيمة رضي الله عنها في صحيح مسلم قال : حَدَّثَنِى زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ .. وذكر سنده إلى إسحاق بن أبي طلحة قال :حَدَّثَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يَتِيمَةٌ وَهِىَ أُمُّ أَنَسٍ فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْيَتِيمَةَ فَقَالَ « آنْتِ هِيَهْ لَقَدْ كَبِرْتِ لاَ كَبِرَ سِنُّكِ ». فَرَجَعَتِ الْيَتِيمَةُ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِى فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مَا لَكِ يَا بُنَيَّةُ قَالَتِ الْجَارِيَةُ دَعَا عَلَىَّ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ لاَ يَكْبَرَ سِنِّى فَالآنَ لاَ يَكْبَرُ سِنِّى أَبَدًا - أَوْ قَالَتْ قَرْنِى - فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا حَتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا لَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ». فَقَالَتْ يَا نَبِىَّ اللَّهِ أَدَعَوْتَ عَلَى يَتِيمَتِى قَالَ « وَمَا ذَاكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ». قَالَتْ زَعَمَتْ أَنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لاَ يَكْبَرَ سِنُّهَا وَلاَ يَكْبَرَ قَرْنُهَا - قَالَ - فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ « يَا أُمَّ سُلَيْمٍ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ شَرْطِى عَلَى رَبِّى أَنِّى اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّى فَقُلْتُ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِى بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ تَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » .
قال محدث بلاد الشام الشيخ ناصر الألباني : ( و قد يبادر بعض ذوي الأهواء أو العواطف الهوجاء ، إلى إنكار مثل هذا الحديث بزعم تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم و تنزيهه عن النطق به ! و لا مجال إلى مثل هذا الإنكار فإن الحديث صحيح ، بل هو عندنا متواتر ، فقد رواه مسلم من حديث عائشة و أم سلمة كما ذكرنا ، و من حديث أبي هريرة و جابر رضي الله عنهما ، و ورد من حديث سلمان و أنس و سمرة و أبي الطفيل و أبي سعيد و غيرهم .انظر " كنز العمال " ( 2 / 124 ) .و تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما مشروعا ، إنما يكون بالإيمان بكل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم صحيحا ثابتا ، و بذلك يجتمع الإيمان به صلى الله عليه وسلم عبدا و رسولا ، دون إفراط و لا تفريط ، فهو صلى الله عليه وسلم بشر ، بشهادة الكتاب و السنة ، و لكنه سيد البشر و أفضلهم إطلاقا بنص الأحاديث الصحيحة . و كما يدل عليه تاريخ حياته صلى الله عليه وسلم و سيرته ، و ما حباه الله تعالى به من الأخلاق الكريمة ، و الخصال الحميدة ، التي لم تكتمل في بشر اكتمالها فيه صلى الله عليه وسلم ، و صدق الله العظيم ، إذ خاطبه بقوله
الكريم : ( و إنك لعلى خلق عظيم ) .
إخوتنا يا أهل فلسطين ويا أهل الإسلام : أذكر نفسي وإياكم بهذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله : « أَلاَ تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ » ، فيالَهَفَاهُ : أين إخوانُنَا هؤلاء ؟!.. عنيت الوالغين في الأَعْرَاض ، لا يتقون الله في إخوانهم ، لا يفتر لهم لسان ، ولا يسكن لهم جَنَان ، الشتم والسباب شعارُهم ، والبطلان والبهتان دثارُهم ، ديدنهم القدح ، وشغلهم الفضح ، الريب دعواهم ، والعيب سيماهم ، ألا يسمعون ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أحبكم إليَّ أحاسنُكم أخلاقا ، الموطئون أكنافا ، الذين يألفون ويؤلفون ، وإن أبغضكم إليَّ المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الملتمسون للبرآء العيب " ) رواه الطبراني في الصغير والأوسط .
ألا يخافون أن يصيبهم قول الله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ{11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ {12} } البقرة .
لا والله لن ينفعكم زعمكم الإصلاح للدين وأنتم تفسدون الدنيا ، ولا والله لن ينفعكم زعمكم الإصلاح للدنيا وأنتم تفسدون الدين ، فصلاح الدين بالدنيا ، وصلاح الدنيا بالدين ، ولكنه البصر الكليل ، والفهم العليل ، فقه الأصاغر،لم يرتضعوا العلم من أمهاته ، ولم يطلبوه وفق آلاته ، ولكنهم جمعوا السمين وقد خالطه الغث بعلاته، فأضاعوا العلم وأفسدوا العمل ، روى الطبراني في الكبير عن أبي أمية الجمحي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر " قال ابن المبارك : الأصاغر : أهل البدع " .
واعلموا أن البركة مع الأكابر ذَوِيْ الأسنان أَتْبَاعِ السُّنن ، لا مع الأحداث الأصاغر الذين هم أهل الابتداع واتِّبَاعِ السَّنَن ، ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " البركة مع أكابركم " رواه الطبراني في الأوسط والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم .
فعليكم – وإن كنتم كارهين - لزومُ ولاة الأمر وجماعة المسلمين ( الأمراء والعلماء) في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ورحمة العباد وصلاح البلاد ، فهذا عهد النبي صلى الله عليه وسلم ووصيته ، ولا يَغُرَّنَّكُم قِيلُهم سلطانٌ ظلوم ،ففي فيض القدير : ( قال عمرو بن العاص رضي الله عنه : إمامٌ غشومٌ خيرٌ من فتنةٍ تَدُوم ، وقال سهل رضي الله عنه : من أنكر إمامة السلطان فهو زنديق ) . ألا وصلوا وسلموا على النبي المصطفى ، والرسول المرتضى صفوة الخلائق أجمعين ، سيد الأولين والآخرين ، من بطاعته صلاحُ الدنيا وزكاةُ الدين ، محمدٍ بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما ، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنه وكرمه سبحانه إنه أكرم الأكرمين.

بقلم/الشــيخ ياســين الأســطل

الرئيس العام ورئيس مجلس الإدارة
بالمجلس العلمي للدعوة السلفية بفلسطين

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت