منذ نعومة أظافره كان همه الوحيد الاهتمام بدراسته والحرص على التفوق في كل مراحله الدراسية ،وكان همه أن يتخرج فينتشل عائلته الفقيرة ،والتي هو أملها المشرق ،وحلمها اللامع،فهو اكبر الأبناء ،وأبوه مريضا منذ سنوات طوال ،ولا يعمل ، حيث كانوا يسكنون في بيت من القرميد في أحد شوارع المخيمات الضيقة ،ذاك البيت الذي يتحول إلى مستنقعا مائيا يجتاح ملابسهم ،وأغطيتهم ،وفرشهم عند هطول أمطار الشتاء ، وفي الصيف تغادرهم نسمات الهواء الباردة لتداعب شرفات البيوت العالية ،والمحيطة بالمكان ، فعوامل التعرية من رطوبة وتشققات باتت تتسع أواصرها !!
لما تخرج من الجامعة ،حيث كان من الطلاب المتفوقين ، فرح فرحا شديدا أحس ، وكأن الدنيا كلها تبتسم معه وله لأول مرة تشاركه نشوة النجاح ،كان كله أمل وطموح وحيوية كأقرانه في أن يعمل في مجال تخصصه في أقرب وقت ،وانتظر وطال الانتظار ،طرق كل الأبواب ،والنوافذ ،ليعمل في مجاله أو أي عمل آخر شريف ليدخل السرور إلى أسرته ،والتي انتظرت كثيرا تلك اللحظات ،ولكن دون جدوى فلا جديد تحت الشمس ،ولا حتى تحت أضواء القمر ،والغريب هو أنه علم أن هناك من زملائه من هم أقل منه بكثير مقارنة بمستواه التعليمي ،لكنهم قد توظفوا فور تخرجهم ،وهنا جرى الدم في عروقه حرقة ،وقهرا ،لاحسدا ،وحقدا على أولئك الزملاء الذين لاذنب لهم ،فالمشكلة لاتكمن فيهم لكن في الذين هم اتخذوا المحسوبية والواسطة ،والمحاباة مذهبا لهم ،فأصحاب الجاه والسلطان ينالون كل شيء ،وبكل ارتياح على طبق من ذهب أوفضة أو زمرد وياقوت ،فما عليهم إلا أن يأمروا ،سيجدون ألف مارد ومارد من بني البشر والذين باعوا ضمائرهم وكرامتهم للشيطان ، يخدمونهم مقابل مصالحهم المشتركة، فليست القضية أنهم يمتلكون مصباح علاء الدين بل هي مصابيح ..في الوقت الذي فيه المعذبون في الأرض ،لا يعرفون الشموع ،ولا يمتلكون حتى الأطباق الفارغة ،ما أقساها دموع ملايين أولئك الشباب التي تسيل كالشلالات الجارفة في شوارع وطننا العربي فتتدفق من المحيط إلى الخليج ،تلك الدموع التي تزرف بكاء على المستقبل المجهول !! ،وما أصعب تأوهات الفقراء حين يتضورون جوعا وألما فلا تجد من يخفف عنهم أوحتى يشعر بهم!! صحيح انه كان يؤمن أن الرزق بيد الله وحده ،لكنه يعلم في ذات اللحظة أن المسلم مطالب ، بالأخذ بالأسباب ، والتي هي عبادة والاعتماد عليها شرك،كما قال أهل العلم ،ماذا يفعل ،وفي لحظة قد ضاقت به الدنيا بما رحبت فوق الأرض ،لذا قرر العمل في بطن الأرض عسى أن تحتضنه ،وتحنو عليه ،هو بحكم ثقافته يعلم أن الفرق واضح وشاسع بين بطن الأرض في بلاد العرب أوطاني ،وبين بطن الأرض في الدول كاليابان ،وفرنسا وغيرها من المتحضرة!!،حاول أن يخفي قراره هذا ،فدخل على أسرته التي كانت تلتف حول موقد النار بكل ود ،وبساطة وقد ارتسمت على محياه بسمات عريضة متكلفة قائلا : لقد فرجت وأخيرا وجدت العمل ..عندئذ فرحت الأسرة،وتهللت أساريرهم ،حمد الله أنهم لم يسألوه أين العمل ،هو يمقت الكذب والكذابين لكنه في قراره نفسه كان عازما على الكذب في هذا الموقف الصعب ،خاصة أن والديه لن يوافقا على العمل بالأنفاق ،وبعد تزايد حالات القتلى ،والذين هم ضحايا البطالة والفقر والجوع ،طلب من أمه أن توقظه مبكرا في اليوم التالي ليستلم وردية العمل ،وفي الصباح سمعت الجيران الصراخات والعويل ،فهبوا للمساعدة
لكنهم مجرد ،أن وصلوا المكان انتباهم الفزع والحزن الدفين ،بعدما علموا أن ذاك الشاب قد دهسته شاحنة ،على مقربة من الشوارع المؤدية إلى الأنفاق !!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت