رسالةٌ فلسطينيةٌ إلى الرئيس الأمريكي أوباما بمناسبة زيارته إلى القدس
الرئيس أوباما
ظهر الأربعاء الماضي حطت طائرتك على أرض فلسطين ، وبمناسبة زيارتك الحالية إلى مدينة القدس أرض النبوات ومهد الحضارات ومهبط الرسالات ، أود أن أبين لك الحقائق التالية :
1- القدس جزء من عقيدة الأمة الإسلامية بقرار رباني من فوق سبع سماوات ، قال تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } الإسراء 1 ؛ فهي مسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي مسجدها صلى ليلة الإسراء إماماً بسائر الأنبياء والمرسلين من لدن سيدنا آدم إلى سيدنا عيسى عليهم السلام ، وهذا اعتراف منهم وتصديق بأن هذه الرض أرض إسلامية ، وهي مرتبطة ارتباطاً عقدياً ببيت الله الحرام في مكة المكرمة وبالمسجد النبوي في المدينة المنورة ، وهذه المكانة لا يمكن أن تلغيها أو تؤثر فيها مواقف سياسية أو قرارات بشرية أو إجراءات احتلالية من غاصبيها .
2- والقدس ـ كما تعلم وكما أقرت الشرعية الدولية ـ مدينة عربية إسلامية محتلة كسائر المدن الفلسطينية التي وقعت في قبضة الاحتلال الإسرائيلي عام 1967م ، وتنطبق عليها جميع القرارات الدولية ذات الصلة الصادرة عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة وعن مجلس الأمن الدولي ؛ والتي تنص على وجوب انسحاب إسرائيل منها وإعادتها إلى أهلها الفلسطينيين ، وهي قرارات مستندة إلى القوانين والمعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية ، وما زال المجتمع الدولي يحافظ على مكانتها هذه ولم يعترف حتى الآن بضمها إلى الاحتلال أو بأنها عاصمة كيانه الغاصب ، فيجب مراعاة ذلك والالتزام به لأن أي خطأ سياسي بهذا الخصوص سيؤدي إلى كارثة في المنطقة وفوضى لا يعلم عواقبها إلا الله .
أما إسرائيل فقد ضربت بكل ذلك عُرض الحائط ، وضمت المدينة المقدسة إلى كيانها عام 1980م بقرار باطل لمخالفته الشرعية الدولية وحق الشعب الفلسطيني الثابت فيها . ولم تكتفِ بذلك ؛ بل أمعنت في عدوانها على المدينة المقدسة بمحاولة تغيير هويتها وطمس معالمها الحضارية العربية والإسلامية : فهدمت عمائرها وأبنيتها التاريخية والأثرية ، حتى مقابرها لم تسلم من التهويد كما هو حاصل في مقبرة مأمن الله ، وصادرت أراضي أهلها وهدمت بيوتهم ومنعتهم البناء ، وفرضت الضرائب الباهظة عليهم وسحبت هوياتهم لإرغامهم على الهجرة منها قسراً بهدف إحداث خلل ديموغرافي فيها لصالح اليهود ولتحويلها إلى مدينة يهودية ، وصادرت المساحات الشاسعة من الأراضي الواقعة في محيطها وحولتها إلى حدائق توراتية تمهيداً لإقامة المستوطنات والكنس اليهودية عليها ، وصادرت كثيراً من بيوت أهلها وطردتهم منها وأسكنت فيها غلاة اليهود في انتهاك صارخ لكل القيم الدينية والقانونية والأخلاقية والإنسانية ، وفي جريمة تطهير عرقي ومذبحة حضارية لم يشهد التاريخ مثيلاً لها ، وذلك لإحداث تغيير في مكانتها العقدية والتاريخية والجغرافية .
يضاف إلى ذلك إقامة جدار الفصل العنصري الذي الْتهم مساحات شاسعة من أراضيها وأراضي الضفة الغربية ، وحوَّل مدنها وقراها إلى سجون كبيرة وعزلها عن محيطها الفلسطيني على الرُّغم من قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي بهدمه وتعويض الفلسطينيين عن الأضرار التي ألْحقها بهم لمخالفته القوانين الدولية ، ولكن إسرائيل تجاهلت هذا القرار كغيره من القرارات الدولية ؛ فواصلت وتواصل بناءه غير عابئة بالشرعية الدولية ، وأقامت الحواجز العسكرية ، وفرضت الحصار المتواصل على الشعب الفلسطيني مما أدى إلى تدمير البنى التحتية بما يخالف اتفاقية جنيف الرابعة .
3- مدينة القدس هي العاصمة الروحية والدينية والتاريخية والوطنية والسياسية للشعب الفلسطيني :
* ففيها المسجد الأقصى المبارك؛ والذي يعتبر من أقدس المقدسات الإسلامية ، ويرتبط جميع المسلمين في العالم به ارتباطاً عقائدياً ؛ فبالإضافة إلى كونه مسرى رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو قبلتهم الأولى ، وهو ثاني مسجد بني على وجه الأرض بعد البيت العتيق .
* وفيها أيضاً كنيسة القيامة؛ والتي لها مكانة روحية عالية لدى المسيحيين في العالم .
وعلى الرغم من ذلك فإن حكومة إسرائيل تعتدي على حق الفلسطينيين في ممارسة شعائرهم الدينية في القدس ، وعلى حريتهم في العبادة التي كفلتها الشرائع الإلهية والمواثيق والقوانين الدولية ، فتمنع المسلمين والمسيحيين منهم دخول المدينة المقدسة والصلاة في المسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة ؛ في الوقت الذي تسمح فيه للجماعات اليهودية المتطرفة وغلاة المستوطنين وشخصياتها السياسية والقيادية باقتحام ساحاته ليسرحوا ويمرحوا ويصولوا ويجولوا ويجوسوا فيها كما يشاءون ، ووفرت لهم التغطية الأمنية والحماية الكاملة ، بل وشاركتهم وتناوبت معهم بجنودها ومجنداتها في اقتحامه يومياُ لاستفزاز مشاعر المسلمين الدينية في العالم .
وعلاوة على ذلك فإنها تتدخل في شؤون مقدساتهم وتنتهك حرمتها ، وأكبر مثال على ذلك الحفريات المتواصلة تحت أساسات المسجد الأقصى المبارك وفي محيط باب المغاربة بهدف تزوير التاريخ ؛ مما أثر على بنيان المسجد وتسبب في تصدع بعض جدرانه وأسواره وانهيار أجزاء منها ، يأتي ذلك تنفيذاً لمخطط ممنهج ومدروس يرمي إلى تقويض أركانه من القواعد وإقامة هيكلهم المزعوم مكانه ، يؤكد ذلك إقامة الكنس اليهودية ملاصقة له وفي جواره ومحيطه .
4- أؤكد لك أن أي مساس بالمسجد الأقصى المبارك وأي انتهاك لحرمته أو اعتداء على قدسيته سيؤدي إلى نتائج كارثية في المنطقة ، لأن المسلمين اليوم في جميع أنحاء العالم لن يسكتوا أبداً كما في الماضي عن أي مساس بمسجدهم وعقيدتهم ؛ مما يهدد الأمن والسلام في هذه المنطقة مما سينعكس على العالم كله .
إن حق الشعب الفلسطيني الديني والتاريخي والسياسي في مدينة القدس ثابت وغير قابل للتصرف فيه أو التفاوض عليه أو التنازل عنه ، وهو تماماً كحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وأراضيهم التي هجروا منها قسراً بقوة الحديد والنار ؛ وفقاً لقرار الأمم المتحدة رقم (194) ، وإن ما تقوم به إسرائيل ضد مدينة القدس وأهلها ومقدساتها يقوّض الجهود المبذولة لإحلال السلام في المنطقة .
إن الوضع الصعب في القدس خصوصاً وفي فلسطين عموماً يقتضينا المصارحة ؛ ذلك أن شعور مئات الملايين من المسلمين بالظلم والكراهية ضد الولايات المتحدة الأمريكية مبعثه دعم الإدارة الأمريكية غير المحدود لإسرائيل، وانحيازها الكامل إليها على الرُّغم من خروجها على الشرعية الدولية ، ودموية ممارساتها ، وإجراءاتها الاحتلالية ، واعتقالها الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني بغير حق أو شرع أو قانون ، واعتداءاتها على حقوق الإنسان ، مما شجعها على الاستمرار في الانتهاكات الخطيرة والممارسات التعسفية والمجازر الوحشية التي ترتكبها في فلسطين ؛ ليقينها أنها في مأمن من الملاحقة والمساءلة بفضل مساندة ودعم الولايات المتحدة الدائم لها .
وإنني أؤكد أيضاً أن الهدوء والأمن والاستقرار في المنطقة والعالم بأسره لن يعم أبداً إلاَّ بأن يسود السلام العادل والمشرف في فلسطين بتحقيق وتلبية جميع الحقوق الفلسطينية العادلة الثابتة ؛ وفي مقدمتها حقهم بزوال الاحتلال ورحيل المستوطنين المغتصبين ، وبنيل الحرية والاستقلال ، وإقامة دولته الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف ؛ الدولة ذات السيادة الكاملة على أراضيها ومقدساتها الإسلامية والمسيحية وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة .
إن تحقيق العدالة والسلام الذي وعدتَ به في بداية ولايتك الأولى خلال زيارتك القاهرة وأنقرة وغيرهما من العواصم الإسلامية ، وأثناء استضافتك بعض الشخصيات الإسلامية في البيت الأبيض ، ورأيك بوجوب تطبيع العلاقة مع العالم الإسلامي ؛ كل ذلك يقتضيك في هذه الزيارة التاريخية استنكار كل ما تقوم به إسرائيل من إجراءات وممارسات قمعية وغير قانونية ، والضغط عليها لتوقف انتهاكاتها لحقوق الشعب الفلسطيني وتدنيسها مقدساته ومساسها بحرمتها ، ولتفرج عن أبنائه الأسرى المختطفين والمعتقلين في أقبية الظلم والقهر ؛ وبالأخص المرضى منهم والمضربين عن الطعام منذ شهور طويلة احتجاجاً على سوء المعاملة والأحكام الظالمة والاعتقالات غير المشروعة .
هذه رسالة مني بما أمثل من مكانة ومنصب ودور ، رسالة واحد من بين ملايين الفلسطينيين ؛ لحقه الأذى الكبير والضرر كما لحقهم ، وعانى كثيراً هو وأسرته كما عانوا نتيجة مواقف الإدارة الأمريكية ودعمها اللامحدود للاحتلال الإسرائيلي الغاشم وانحيازها الكامل إليه ، ونتيجة كيلها بمكيالين في مواقفها السياسية والعسكرية .
رسالة آمل ألا تكون كغيرها من الرسائل ، وأن تجد أذناً صاغية متدبرة لما تتضمن وتحوي من حقائق وآمال ، لا أن يكون مصيرها النسيان أو الذهاب أدراج الرياح .
وآمل في زيارتك التاريخية هذه إلى القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة أن تصوب المسار السياسي للإدارة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية العادلة بالوقوف إلى جانب الشعب الرازح تحت الاحتلال ، ورفع المعاناة من ويلاته وبطشه وممارساته القمعية ، وبالوقوف إلى جانب الحق الفلسطيني الثابت الذي اعترف به العالم وأجمع عليه ـ باستثناء قلة قليلة من الدول في مقدمتها أمريكا ـ بالتصويت في الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة بتاريخ 29/11/2012م لصالح منح فلسطين صفة الدولة غير العضو فيها لكن بصفة مراقب ؛ في خطوة إيجابية على طريق نيلها العضوية الكاملة ومن ثم إنهاء الاحتلال .
لقد اشترطتَ على دولة فلسطين قبل عدة سنوات لوقف الاستيطان وقف التحريض ضد إسرائيل ـ الدولة المحتلة الغاصبة ـ وها قد أوقف التحريض ، فهل توقَّف الاستيطان ؟
على العكس من ذلك ؛ فقد ازدادت وتيرته واتسعت رقعته وازدادت إدارتكم دعماً وتأييداً لإسرائيل ، واستمرت إدارتكم في الوقوف ضد قرارات الشرعية الدولية التي تتغنى أمريكا بأنها الراعي لها والأمين عليها باستعمالها سلاح الفيتو ضد أي قرار بإدانة الاستيطان أو الدعوة إلى وقفه .
لقد التقيتَ بعد وصولك إلى هذه الأرض بقليل أطفالاً إسرائيليين ، أبناء المحتلين الذين ينعمون برغد العيش وبالحرية والاستقرار وبكل أسباب الرفاهية على حساب معاناة أطفالنا ، فهل تفكر بلقاء الأطفال الفلسطينيين الذين يرزح آباؤهم أو أمهاتهم في سجون الاحتلال ؟ هل تفكر بلقاء الأطفال الفلسطينيين الذين جعلتهم الأسلحة الأمريكية أيتاماً بالأيدي الإسرائيلية من جنود ومستوطنين ؟ هل تعرف كم أصبح عدد الأطفال الأيتام الفلسطينيين ؟ هل تفكر بلقاء الأمهات الثكالى وأرامل الشهداء وزوجات الأسرى ؟ هل تفكر بالتجول في شوارع المخيمات في مدينة بيت لحم ولقاء أهلها ؟
ليتك تلتقي كل هؤلاء لتلمس وتعلم مرارة العيش الذي يتجرعونه كل صباح ومساء بعد أن فقدوا الأب الحاني والراعي والمعيل ، بعد أن حرموا العيش في كنف أسرة آمنة مطمئنة ، أو في وطن مستقر يتمتع بالسيادة الكاملة على أرضه كغيرهم من أطفال العالم ، هذا العالم الذي لم يبق فيه احتلال أبداً سوى هذا الاحتلال الجاثم على صدورنا ، الرابض على أرضنا العربية الإسلامية المباركة .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت