مقال بعنوان "يوم الأرض مناسبة احتفالية أم مراجعة نقدية"

بقلم: د. مصطفى اللداوي

تتبارى الفصائل الوطنية والإسلامية في إصدار بيانات لها، وتصريحات لقياداتها بمناسبة يوم الأرض في الثلاثين من مارس. وكل هذه البيانات والتصريحات تعزف على وتر واحد هو أهمية الأرض، وجوهرها في المشروع الوطني الفلسطيني رداً على جوهرها في المشروع الصهيوني. ونحن هنا لا نختلف مع بيانات الفصائل وتصريحات قياداتها بخصوص كون الأرض مركز الصراع الفلسطيني والصهيوني ولكن الاختلاف معهم هو هل يدركون ما يقولون، ويعون حقيقة ذلك؟ هل تصريحاتهم هي تصريحات سياسية وإعلامية للاستهلاك المحلي فقط أم تعبر عن رؤية واضحة لحقيقة الصراع الفلسطيني الصهيوني. إن الفصائل والقيادات الفلسطينية يجب ألا تحاكم من خلال تصريحاتها الإعلامية، ولو أننا جعلنا هذا هو المعيار لفازت هذه الفصائل منذ زمن بعيد بالسبق الصحفي والأداء الوطني، ولكن معيار قوة القول ليس بلاغته على الطريقة العربية التقليدية، وإنما قوة القول من تأثيره وفاعليته على الأرض، ومدى انطباق ذلك على الأرض. وكيف يترجم القول إلى وعي، والوعي إلى سلوك ممارس. هنا يكون المعيار الحقيقي الذي يجب أن يستند إليه. وهنا فقط يتم تجاوز البعد التراثي العربي المتجسد في أمثلته الشعبية مثل "أم قول غلبت أم فعال"، و"خذوهم بالصوت"، "وفنجري بق" ... الخ من هذه الأمثلة التي ترى أن ثقافة العرب ومن ثم سلوكهم وأدائهم هو ظاهرة صوتية ليس إلا.

فيوم الأرض هو تجسيد لتشابك الإنسان مع الأرض في هوية واحدة لا تنفصل عن الأخرى، وأن يوم الأرض هو رد على المقولة الصهيونية التي رددها ونشرها إعلامياً اليهودي البريطاني إسرائيل زانغويل، هذه العبارة التي تقول "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وقد جسدت المقولة آلة إعلامية صهيونية ضخمة رافقت المشروع الصهيوني. وشكلت رسالة للعالم أن فلسطين لا يقطنها إلا جماعات من البدو الرحل الذين ينتقلون من مكان إلى آخر بحثاً عن الماء والكلاء. ولا يوجد لدى الفلسطيني أي صلة بالأرض، أو أي ارتباط تاريخي أو روحي أو ذا مدلول للهوية. وبالتالي يمكن إزاحة هذا الفلسطيني إلى أي أرض عربية مجاورة، وإحلال المهاجرين اليهود مكانه على اعتبار أن لهم ارتباط روحي وتاريخي بأرض فلسطين. ويعد ذلك جوهر المشروع الصهيوني الإحلالي الذي وجد ضالته في بريطانيا الاستعمارية التي تطابقت مع المشروع الصهيوني عندما خاطبت 7% من سكان فلسطين بالشعب، وخاطبت 93% من شعب فلسطين بجماعات غير يهودية. وهنا يبرز تماهي الرؤية والسياسة البريطانية مع الرؤية والمشروع الصهيوني الذي نظر للشعب الفلسطيني أنه غير موجود، وهو عبارة عن جماعات متنقلة يمكن قتلها أو زحزحتها إلى أماكن مجاورة متناسين أن الشعب الفلسطيني هو صاحب حضارية مدنية تقوم على المدن والقرى منذ آلاف السنوات قبل الميلاد، وأن المدن الكنعانية المحصنة قد برزت منذ الألف الرابع والثالث قبل الميلاد. وأن الإنسان الفلسطيني قد عمر المدن والقرى، وبرع في التحصينات، ووسائل الدفاع المختلفة عن مدنه وقراه. وأن استمراريته الحضارية لم تنقطع.

ويجدر الذكر أن المشروع الصهيوني شكل استنساخاً للمشروع الأمريكي ضد الهنود الحمر. فقد أباد الرجل الأبيض الأوروبي على مدار خمسة قرون قبائل وشعوب الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، ولم يكن هناك حقوق إنسان أو إعلام يبرز وحشية المشروع الاستيطاني للرجل الأبيض التي شكلت الهجرة والاستيطان جوهرة، وكانت الأرض هي مركز الصراع، حيث زحف الرجل الأبيض على أراضي الهنود الحمر تدريجياً، وتم الاستيلاء عليها بمجزرة تلو أخرى. وتم بذلك القيام بحرب تطهيرية استمرت لقرون عديدة. ويعمل المشروع الصهيوني الآن على استنساخ التجربة ضد الشعب الفلسطيني بتصويره أنه مجموعة من البدو الرحل البرابرة الهمج، وأن على العالم ألا يلقي بالاً لوجودهم أو لتشردهم أو حتى لإبادتهم لأنهم خارج السياق الإنساني الحضاري. وبذلك فإن المشروع الصهيوني يسير في جوهره على ساقين: الساق الأولى هي الاستيلاء على الأرض، وثانياً الهجرة لهذه الأرض واستحلالها. ومن هنا فإن الاستيطان يشكل جوهر المشروع الصهيوني أمس واليوم وغداً لأنه في رؤيته وممارسته هي إحلال مزيج من البشر مكان شعب آخر وعلى نفس الأرض. ويجب فهم المشروع الصهيوني ضمن هذه الرؤية، وبالتالي رسم حدود المواجهة بناء على هذه الرؤية. فالمشروع الصهيوني ليس مشروعاً إستعمارياً بالمعنى التقليدي الذي يستهدف المقدرات الاقتصادية وفق منظومة الثورة الصناعية من مواد خام وأسواق، بل هو مشروع استيطاني إحلالي يستهدف الأرض والإنسان والحضارة والتاريخ والهوية والأماكن المقدسة ... الخ. هو مشروع شمولي يشكل تحدِ كبير، وهذا التحدي يتطلب استجابة كبيرة وفق قوانين الفيزياء.

إن الاحتفال في يوم الأرض من قبل الفصائل الفلسطينية دون مراجعة نقدية لأدائها يدخل في باب المزايدات السياسية، ويدخل في باب بكائية العقل الفلسطيني والعربي استمراراً لبكائية زهير بن أبي سلمى على أطلال حبيبته. فالسياسة غير الشعر. ولكن يبدو أن أداء فصائلنا قد أدخلنا في مقولة نقتبسها من صديقنا الدكتور خضر محجز حول "شعرنة العقل العربي"، وكيف أصبحنا نتعاطى السياسة بالخيال والتهويل والنعيق والنهيق ... الخ. وأن الشعر وأن كان أحد أعمدته الخيال، فإنه يحظر على السياسة أن تمارس الخيال. بل تنطلق من فهم الواقع، ليس بهدف الاستسلام والاستكانة له بل من أجل تشخيص عوامل القوة والضعف في معركة يجب أن تكون علاجية تستند على الأخذ بالأسباب وفق نظرية "أرنولد تونبي" حول التحدي والاستجابة. وإن المشروع الصهيوني الذي يشكل تحدِ كبير يجب أن يواجه باستجابة قوية تعيد التوازن للشعب الفلسطيني في حاضره ومستقبله، وأن يكون المشروع الصهيوني حالة استفزازية للعقل والإرادة الفلسطينية والعربية والإسلامية معاً. هنا فقط وضمن هذه الرؤية فقط يمكن أن نحتفل ونصدر البيانات، ونتبارى في التصريحات بمناسبة يوم الأرض. أما في ظل الانقسام، وفي ظل حوار الطرشان، أو كما سماه البعض خوار الطرشان أو الثيران، وفي ظل مهاترات ومسرحيات جلسات المصالحة التي تنطلق هنا وهناك فلا يمكن أن نحترم هذه البيانات والتصريحات. وبدون مراجعة نقدية لأداء الفصائل خلال الفترة السابقة لاسيما في سنوات الانقسام الأخيرة لا يمكن أن نلقي بالاً لهذه المساجلات الإعلامية التي لا تخرج عن كونها مزايدات ومهاترات. فلا يمكن أن نستعيد الثقة بفصائلنا وقياداتها وبياناتها إلا إذا تم الاحتكام إلى رؤية وبرنامج سياسي توافقي، يعيد المشروع الوطني الفلسطيني إلى بوصلته وإلى اتجاهه السليم. بحيث يتم تعزيز وحدة الشعب الفلسطيني في معركة تمسكه بأرضه، وهويته وصموده، ونضاله.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت