إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم

بقلم: تيسير التميمي

هذا هو الإسلام
إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم

في السنة العاشرة من الهجرة أدى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وألوف من أصحابه فريضة الحج ، فخطب فيهم خطبة الوداع يوم النحر بمنى ، فاشتملت خطبته على أبرز قواعد الإسلام وأسسه ومبادئه ، فقد قال فيها { أتدرون أيّ يوم هذا ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال فإن هذا يوم حرام ، أفتدرون أيّ بلد هذا ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال بلد حرام ، أتدرون أيّ شهر هذا ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال شهر حرام ، قال فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا } رواه البخاري .
صان الإسلام النفس الإنسانية أن تزهق بغير حق ، وحرم الدماء أن تراق ظلماً وعدواناً ، واعتبر مرتكب هذه الجريمة كأنما قتل الناس جميعاً ، وكثرت الآيات الكريمة والأحاديث النبوية التي تجرم هذا العدوان عليها ، فأوجبت إيقاع العقوبة الرادعة بحقه زجراً لكل من تحدثه نفسه بارتكابها .
وكفل ديننا الحنيف للإنسان ماله أن يُعتدى عليه ، فحرم السرقة والغصب والاحتيال والسلب والنهب وأكل المال بالباطل وغيرها من صور العدوان على المال ، وتوعدت الآيات الكريمة والأحاديث النبوية من يفعل ذلك بالعذاب الشديد يوم القيامة ، وفرضت عقوبات مشددة على من يقترفها .
وأولت الشريعة الإسلامية الأعراض عنايةً خاصة ، فأوجبت صيانتَها والمحافظةَ عليها ، وحرَّمت الاعتداءَ عليها أو النيل منها بأي وجه من الوجوه ، فالعرض من القضايا الرئيسية التي يُجْهِدُ كلُّ إنسانٍ نفسَه في المحافظة عليها .
فالإساءة إلى أيّ إنسان بما يمس كرامته أو عرضه من المحرمات ، فلا يجوز لأيّ إنسان مثلاً أن يعتدي على آخر بالسب والشتم أو الإشانة أو انتهاك الحرمات والأعراض أو تتبع العورات ، أو الإساءة إليه بكل ما يؤدي إلى ازدرائه أو انتقاص سمعته واحترامه بين الناس ، فجريمة الاعتداء على الكرامة من أخطر الجرائم ، لأنها منشأ الفتنة ، ومآلها زرع الأحقاد والتقاتل وسفك الدماء ، قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } الحجرات 11 .
ويحرم أيضاً كل ما يؤذيه أخاه المسلم في مكانته الاجتماعية والأدبية من غيبة وقذف وافتراء وغيرها ، قال تعالى مشبهاً الغيبة بأبشع صورة يمكن تصورها { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } الحجرات 12 ، وقال صلى الله عليه وسلم في تحريمها { أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال ذكرك أخاك بما يكره ، قيل أفرأيت إن كان فى أخى ما أقول ؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بَهَتَّه } رواه مسلم ، وقال { يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه! لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه الله ولو في قعر بيته } رواه أبو داود .
ومن أشدَّ صور الغِيبة وأضرّها على أهلها وأشرّها وأكثرها بلاءً وعقابًا تساهل المرء بما تخُطُّه يمينه ، قال صلى الله عليه وسلم { إنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمة لا يليقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعدَ ما بين المشرقِ والمغرب } رواه البخاري سواء في ذلك الكلمة المسموعة والمقروءة ، وروي عن الإمام الشافعي رحمه الله قوله :
وما من كاتب ٍ إلاَّ سيفنى ويبقى الدهر ما كتبت يداه ٌ
فلا تكتب بخطك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه ُ
وللشفاء من داء الغيبة يجب التداوي لها ، ومعالجتها بالإكثار من ذكر الله تعالى ، ومعرفة حدود الله من أفضل الوسائل ليكف الشخص نفسه عن الاغتياب . وكذلك زيادة الورع واستحضار الخوف من الله عز وجل ، فمن قلَّ ورعه طعن في أعراض الناس ، وترك الحسد دواء ناجع للغيبة ، فالحسد من دوافع الغيبة التي تحمل المرء عليها ، وأما الترياق الشافي للغيبةفهو الانشغال بعيوب النفس عن عيوب الناس ، قال صلى الله عليه وسلم { يبصر أحدكم القـذاة في عين أخيه وينسى الجذل أو الجذع في عين نفسه } رواه البخاري في الأدب المفرد ، والجـذل هو الخشبـة العالية الكبيرة ، فمن أبغض صور الغيبة وأظهرها أن ترمي غيرك بعيوب نفسك .
وأسوأ صور الغيبة النيل من العلماء ، وقد استعظم أهل العلم هذه الصورة واستهجنوها ، فقد قال الإمام ابن عساكر رحمه الله موجهاً ومحذراً [ أعلم يا أخي ـ وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته ـ أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناولُ لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم ] ، فالعلماء هم ورثة الأنبياء ، وأمناء الله على خلقه ، فوجب الدفاع عنهم وحرم إيذاؤهم ، وهنا أود التذكير بمحنة الإمام أحمد بن حنبل الذي بلغت به الأمور أنه لم يجد نصيراً ظهيراً له في فتنة خلق القرآن الكريم ؛ لكنه ظل ثابتاً في محنته على الحق لا ينثني عن موقفه ؛ فأوذي وضيق عليه وسجن وعذب ، ثم كانت العاقبة أن نصره الله وساق إليه من رفع الظلم عنه وأعلى كلمة الحق والدين ونشرها على يديه .
وأما القذف والسب والقدح والذم والإشانة بما ينال من شرف الإنسان واعتباره وسمعته بين الناس فهي من جرائم التعزير التي ليست لها عقوبة محددة في الشرع ، وعلى القاضي أن يختار العقوبة التي يراها مناسبة بحيث يكون فيها تأديب للجاني بمقدار ما اقترفه من جرم ، قال ابن الهمام [ إذا قذف مسلماً بغير الزنا فقال يا فاسق أو يا كافر أو يا خبيث أو يا سارق ، لأنه أذاه وألحق الشين به ، فوجب التعزير ] شرح فتح القدير 5/333 .
فلْيعلم من أطلَقَ قَلمَه أو لسانَه في التجريح والقَدح أنه قد بغى وظلَم ، ولْيخشَ على نفسه من دعوةٍ تَسرِي بليلٍ وهو عنها غافِل ، ولْيعلم أنه آذى أخاه ، فالأذية كما تكون بالأفعال تكون بالأقوال القبيحة أيضاً كالبهتان والافتراء والتكذيب ، قال تعالى { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } الأحزاب 58 ، وهذه الآية الكريمة نظير قوله تعالى { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } النساء 112
فلْنجتنب أَذَى الْمُؤْمِن , فَإِنَّ اللَّهَ يَحُوطهُ وَيَغْضَب لَهُ ، ولْنعلم أنَّ أعراض المسلمين حفرةٌ من حُفر النار ، ولْنحذر الوقوف على شَفيرها .
وينبغي للمسلم الحق والمؤمن التقيّ النقيّ الطائع لله سبحانه وتعالى المتّبع منهاج النبوة ألاَّ يخوض في عرض أخيه مع الخائضين ، وأن يضع ذاته مكان أخيه فيلتزم قول ربنا جلّ وعلا { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } النور 12 ، وألاَّ يحضر هذه المجالس أو يشارك فيها ، فإن حضرها ولا بدَّ فلْيقطع الحديث ما استطاع ، وإلاَّ فلْيدافع عن عرض أخيه ، قال صلى الله عليه وسلم { من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة } رواه الترمذي .
فإن البُهتان والافتراء وقول الزّور والشهادة به مهما علا وارتَفَعَ في الآفاق وشاع بين المسلمين فهو آخِذٌ صاحِبَه إلى الهاوية ، ومُردٍ به إلى سوء العاقبة في الدنيا والآخرة ، قال صلى الله عليه وسلم { من قال في مؤمنٍ ما ليس فيه أسكنَه الله رَدْغَة الخَبال حتى يخرج مما قال } رواه الطبراني وصححه الألباني ، ورَدْغَة الخَبال هي عصارة أهل النار ، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً { الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه ، وإن أربى الربا استطالةُ الرجل في عِرْض أخيه } رواه أبو داود وصححه الألباني .
وروى معاذ رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له { ألا أُخْبِرُكَ برأسِ الأمْرِ وَعمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنامِهِ؟ قلتُ بلى يا رسول اللّه! قال رأسُ الأمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهادُ، ثم قال: ألا أُخْبِرُكَ بِمَلاكِ ذلكَ كُلِّهُ؟ قلت بلى يا رسول اللّه! فأخذ بلسانه ثم قال: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، قلتُ يا رسول اللّه! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال ثَكِلَتْكَ أُمُّكَيا معاذ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وُجُوهِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ ألْسِنَتِهِمْ؟ } رواه الترمذي .
فكل امرئ مخبوء تحت لسانه ، وكلامه ترجمان ما في قلبه ، قال تعالى { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } آل عمران 118 ، وقال سبحانه أيضاً { وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } محمد 30 ، ولذا فقد حذرنا ربنا عز وجل من إطلاق الألسن بما تشتهي الأنفس ، بل دعانا إلى استحضار مراقبته وإحاطة سمعه وبصره بأقوالنا وأعمالنا ودخائل نفوسنا وذوات صدورنا ، قال تعالى { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ق 16-18 .
فلنحرص على أعمالنا وطاعاتنا وقرباتنا وعباداتنا ألاّ نبطلها ، وعلى أجورنا ألاَّ نضيعها وموازيننا ألاَّ نخففها ، قال صلى الله عليه وسلم { أتدرون من المفلس؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وضرب هذا وسفك دم هذا ، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار } رواه مسلم .

الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت