دروس من عالم الحيوان

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج

دروسٌ من عالم الحيوان
الجزء الخامس
قصة الأسد والحمار والفأر

.............................................
درجت الحيوانات في إحدى الغابات العربية على السخرية والإستخفاف بالحمار، وإطلاق النكات عليه بغزارة واستهزاء وخاصة فيما يتعلق بالغباء والإفتقار الى الحيلة والحكمة وإعمال العقل، والإنقياد الأعمى لكل من هب ودب، والصبر على الظلم دون حراك مضاد، وتصديق كل شيء على علاته دون النقاش والحواربالعقل والمنطق والحجة، فضاق الحمار ذرعاً بذلك، وقرر أن ينتقم لكبريائه التي مرغتها الحيوانات في التراب والوحل. فكر الحمار وقدّر، كيف سيسترد كرامته المهدورة على ألسنة كل الحيوانات صغيرها وكبيرها وكريمها وحقيرها وقويها وضعيفها. وجلس يفكر ملياً بخطة وعمل يستعيد له كرامته وهيبته أمام الحيوانات، فقال في نفسه وبقيادة من عقل يعتريه الغباء وضيق الأفق:
إن أوقعت زعيم هذه الغابة في ورطة ومهانة سوف يهابني الجميع في هذه الغابة، إنه الزعيم الذي لا يُقهر، تهابه وتخشاه وتحترمه كل الحيوانات. فإن تسببت له بالهوان والوقيعة، وطعنته في قوته وجبروته فسوف أنتقم لنفسي من هذا المجتمع الظالم، وأقطع كل الألسن التي تتعرض لي بالسوء والإحتقار والسخرية.
وكان يحكم تلك الغابة أسدٌ قويٌ وعادل لا يظلم أحداً، وتحترمه وتحبه كل الحيوانات. وتخشى سطوته في الإنتصار للمظلوم، ورحمته بالفقراء والمساكين.
وبينما كان الحمار يتمشى بالغابة ويفكر بالمكيدة التي سيوقعها بالحاكم العادل، لمح صياداً ينصب شركاً كبيراً لاصطياد حيوان كبير بحجم الأسد، لعله يريد اصطياد نمر للإستفادة من فرائه الثمين، ووضع على الشرك طعماً مغرياً هو ظبيٌ صغير مذبوح لا حراك فيه. وهنا التقط الحمار فكرة المؤامرة على هذا الأسد العادل القوي الذي يذود عن هذه الغابة ويحميها من الأعداء الطامعين. فعين المكان والعنوان، وذهب مسرعاً الى عرين الأسد، فوجده يمارس عمله بقصر الحكم. فطلب مقابلته على عجل ولأمر يخص أمن الوطن، فأدخله رئيس الديوان للأسد، ودار بينهما الحوار التالي:
الحمار: سيدي القائد، لقد وجدت فريسةً طيبة في الغابة، وكما تعلم فأنا ليس من أكلة اللحوم، وأحببت أن أخبرك بها لتحضرها وتحتفظ بها في مستودعات التموين، وتقضي بها حاجات الجائعين والمحتاجين كعادتك، وذلك قبل أن ينقض عليها ذئب أو كلب ويستحوذ عليها بأنانيته.
الأسد: هيا سر أمامي الى مكان الفريسة أيها الحمار.
سار الأسد خلف الحمار في طريقهما الى مكان الفريسة، ولما وصلا اليها، لاحظ الحمار تباطؤ الأسد بخطواته وتمعنه بالفريسة من بعيد. واقترب منها متشككاً بوضعيتها.
قال الأسد للحمار: يبدو أنها شرك، دعني أتفحصها، فاقترب منها الأسد يتمعنها ويتفحص محيطها وما يكتنفها من حيل الصيادين، فعرف أنها مؤامرة صياد، فهنا أدرك الحمار ذلك، فما كان من الحمار الأّ أن دفع الأسد بقوة على الشرك. فسقط الأسد بالشرك تحيطه الحبال من كل حدب وصوب، وحاول الإنفكاك بدون فائدة، فنهق الحمار ضاحكاً ومستهزئاً بالأسد. وتجمعت الحيوانات على نهيق الحمار، فصدمها المنظر، وأسرعت كبيرها وصغيرها الى قائدها تحاول إنقاذه وتخليصه من المصيدة، ولكنها فشلت في ذلك.
وبينما كانت الحيوانات تحاول إنقاذ الأسد وسط نهيق الحمار مستهزئاً ومستعرضاً قدرته على الإيقاع بأقوى الحيوانات، مر فأر متسللاً من جحره القريب ومختبئاً من صول القطط والأفاعي، وصاح بصوته: افسحوا لي الطريق أيتها الحيوانات، واحموا ظهري من القطط والثعابين، سأنقذ الزعيم من المصيدة.
نظرت اليه الحيوانات بسخرية واستصغار، ولكنه أصر على تحديه، فكان له ذلك.
إنطلق الفأر الى جحره مستدعياً جيشاً من الفئران لإنقاذ الحاكم من الهلاك. فانطلق جيش الفئران نحو الأسد، وأمسك كل فأر بحبل وبدأ بقضمه بأسنانه وأنيابه الحادة، ولم تمض ساعة حتى تقطعت الحبال المحيطة بالأسد، ونهض من كبوته متخلصاً من القيود التي التفت حوله.
اعتقل حرس القصر الحمار وأودعوه السجن. وجرى معه تحقيق حول الأسباب التي دعته الى ارتكاب هذه الجريمة السياسية بحق البلد والشخصية بحق القائد، فاعترف الحمار بأن ما دفعه لذلك هو شعوره بالإنتقاص من قيمته في المجتمع وبنظرة السخرية والإحتقار التي يتعرض لها تحت سلطة الحاكم دون خوف أو ردع من شرطة الآداب التي شاركت المجتمع في الإستهزاء والسخرية من الحمار.
وتم تحويل الحمار الى القضاء للمحاكمة، بتهمتين، تهمة سياسية بقلب نظام الحكم، وتهمة بالشروع المتعمد بقتل الحاكم، وتبرع الأسد بالدفاع عنه والمرافعة لصالحه. فأسقط حقه الشخصي عن الحمار، ورافع عنه تجاه الجريمة السياسية، معتمداً على محدودية عقل الحمار بالفطرة الخلقية، وعلى ظلمه من قبل المجتمع، وتقصير حكومته في الدفاع عنه، ولجم ألسنة الناس عن الإساءة التي آذته معنوياً وأحبطته.
ذهب الأسد الى عرينه، وطلب من رئيس ديوانه استدعاء الحيوانات في الغابة للإستماع الى خطاب هام سيلقيه الأسد على رعيته. وتجمعت الحيوانات حول العرين، واعتلى صخرة يخطب في الحيوانات:
أيها الإخوة المواطنون صغاراً وكباراً، أتقدم اليكم بشكري الجزيل على وفائكم وإخلاصكم وجهودكم في خلاصي من شرك المؤامرة التي حيكت من الأعداء الخارجيين ضد مواطن من مواطني هذا الوطن والإيقاع به فريسة، والتقطها مواطن من وطننا وحولها لتكون شركاً لاصطياد القيادة، تلك القيادة التي عملت على المساواة والعدل وإنصاف المظلومين، وتصدت لكل عدوان بكل ما أوتيت من قوة وإمكانيات.ودافعت عن هذا الوطن من كل عدوان خارجي يستهدف أمن الوطن واستقراره ورفاهيته. وما صدمني هو أن يكون اليوم عدواناً داخلياً من مواطني هذا الوطن الذي يعطى فيه كل ذي حق حقه. مما يدل على أن هنالك سوسة تنخر بالكيان الوطني من داخله، وتجتاح المجتمع، وهذا هو الأخطر، فالعدوان الخارجي يمكن تحديده وتوقعه وتحمل مخاطره ومقاومته بتلاحم المواطنين، والتفافهم حول قيادتهم. أما العدوان الداخلي فلا يمكن تحديده وتوقعه ومقاومته بنفس القوة التي يقاوم بها العدوان الخارجي. إنه كالسرطان يتفشى بجسد الوطن، فيقطعه ويشرذمه، ويفتت قواه ويوقع بين ظهرانيه القطيعة والفتنة. لقد بدأت السوسة تنخر المجتمع في تربيته وفي أخلاقه، وهو ما دعا الحمار ودفعه الى هذا العمل المشين مقابل نبزه بالألقاب وضرب الأمثلة به في الغباء، منقاداً بعقله المحدود وفكره الضيق وثقافته القاصرة، وقلة وعيه، وهذا ما فطر عليه، وليس من صنعه. لقد خلق الله المخلوقات متفاوتة بالعقل وآفاقه، فمنها ما وهبه الله عقلاً بآفاق واسعة متدرجة بمساحة الفكر هو الإنسان، ومنها من وهبه الله عقلاً بآفاق ضيقة متدرجة بالضيق تنطبق علينا نحن الحيوانات. لذلك رفضت المصادقة على حكم المحكمة بإعدام الحمار، وأصدرت عفواً رئاسياً عنه. فأطلقوا صراحه ليخدم الوطن من موقعه وبما اوتي من صفات ومواهب وقدرات، فقد تعلمنا منه الصبر على البلاء، وحملنا على ظهره الأثقال وخدم الوطن دون أن يشتكي يوماً، فلماذا أهنتموه، وجرحتكم كبرياءه.
إنني لا أريد لوطني أن يكون وطناً يربط فيه ويخطط له الحمار بعقله المحدود وفكره الضيق وقلة حكمته، ويحل فيه ويدافع عنه الفأر بقوته الهزيلة الضعيفة وسواعده الهشة، ليس هذا إنتقاصاً من قيمة الحمار والفأر ودورهما في المجتمع، بالعكس إنني أكن لهما كل احترام وتقدير، فقد قدما للوطن خدمات تتناسب مع طاقة ومواهب كل منهما وبما فطرهما الله عليه، وننتظر منهما الإستمرار بكل ما تتسع له طاقتهما من جهد.
إن قصة الحمار كشفت لنا عن خلل تربوي في المجتمع، وعن تقصير حكومي بحق المظلومين، لذلك نحتاج اليوم الى ثورة تربوية على مناهج التربية والتعليم القائمة، لتتناسب مع المعتقدات الدينية في سماحتها وعدالتها ومساواتها في الحقوق والحريات والواجبات بين الخلق، وعدم الإستهانة والسخرية والتنابز بأي مخلوق نتيجة للفطرة التي فطره الله عليها، فلم يخلق الله شيئاً عبثاً، ونحتاج الى مراجعة شاملة لمفاصل السلطة الحاكمة، وذلك لسد الفجوات التربوية ومعالجة التقصير الحكومي في إنصاف المظلومين من المجتمع، وسأعيد هيكلة السلطة الحاكمة، ومحاسبة المقصرين، وأريد منكم مد يد العون في مجال التربية والتعليم والتكافل الإجتماعي على مستوى الأسر والمؤسسات التربوية والتعليمية في كل المراحل، للنهوض بالمجتمع واللحاق بالمجتمعات المتقدمة.
وفققنا الله جميعاً لخدمة الوطن، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تصفيق حاد استمر نصف ساعة.

بقلم أحمد ابراهيم الحاج
3/4/2013 م

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت