((( ... يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ... )))
أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بأن يكونوا كالجسد الواحد ، بالتكافل فيما بينهم ، وبالتعاون في قضاء حوائج بعضهم والتخفيف عن المهمومين والمكروبين ، قال صلى الله عليه وسلم { من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ... } رواه مسلم .
ولعلَّ الدَّيْن من أجلى صور هذا التعاون الاجتماعي ، حثنا الله تعالى عليه بقوله سبحانه { مَنْ ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } البقرة 245 ، قال ابن كثير في تفسيرها : يحث الله عباده على الإنفاق في سبيل الله . وسمي هذا الإنفاق قرضاً لأن صاحبه أخرجه للحصول على البدل ، وهو الأجر العظيم والثواب الجزيل ، أي من هذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدله الله بالأضعاف الكثيرة ، قال تعالى في ذلك { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } البقرة 272 .
وحكمة مضاعفة ثواب وأجر القرض الحسن أن المقترض تضطره الظروف الصعبة لطلب العون من الآخرين بإقراضه مالاً يواجه به ضائقة شديدة ألمَّت به على أن يرد المال الذي اقترضه ، ومن ثم فإن المرء حين يقرض أخاه المسلم إنما يعينه بذلك في محنته ويخرجه من ضائقته ، فالمؤمن الصادق مع ربه لا يبخل عن إقراض أخيه الذي أصابه العوز واضطرته الصعاب أن يطلب العون . وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم { رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ قَالَ لِأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَسْتَقْرِضُ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ } رواه البيهقي ، وفي رواية قال { لأن الصدقة تقع في يد الغني والفقير ، والقرض لا يقع إلا في يد من يحتاج إليه } . وقال ابنُ عُمر رضي الله عنهما معلِّلاً سبب مضاعفة أجر الدَّين [ الصدقةَ إنما يُكتَب أَجرُها حين التصدق، والقرض يُكتب أَجرُه ما دام عند المُقترِض ] . ولهذا فقد أقدم الصحابة على مداينة بعضهم رغبة فيما عند الله تعالى ، قال أبو الدرداء رضي الله عنه [ لأَنْ أُقرضَ دينارين ثم يُرَدَّا، ثم أُقرضُهما أَحَبُّ إليَّ من أَتَصدَّقَ بهما ] رواه البيهقي .
والقرض الحسن الذي دعت إليه الآية الكريمة هو الذي لا يجر على الدائن نفعاً مهما كان ، بحيث يسترد المقرض ماله الذي أقرضه دون أية زيادة ، وإلاَّ فإن كل زيادة أو نفع هو ربا محرم ، فالقرض الحسن هو ما يكون خالصاً لوجه الله عز وجلّ ومقرباً إليه ، وقد عرفه الفقهاء بأنه تبرّع محض من شخص جائز التصرف بمنفعة وعينها على وجه مؤقت على سبيل الاسترداد ، فهو عمل خيري يقصد به المؤمن تنفيس كرب أخيه ورفع الحرج عنه .
وللقرض الحسن شروط لا يتحقق إلا بها ، فعبارة (القرض الحسن) تدل على وجود قرض غير حسن ، وهو العطاء الذي اختلت شروطه ولم تتوفر ضوابطه ، فهذا القرض ليس لصاحبه إلا ما نواه ، قال تعالى { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } آل عمران 117 . أما من كانت إرادته معلقة بالله عز وجل وعطاؤه خالص لوجهه ، وكان مراده أداء حقوق المسلمين ، والإسهام في بناء أمة قوية متماسكة ، فله من الله ما نوى وقصد ، فمن أبرز شروط القرض الحسن ومواصفاته : أن يكون المتصدّق صادق النية ، طيب النفس ، يبتغي وجه الله بغير الرياء والسمعة ، وأن يكون عطاؤه من الحلال .
ومن أنواع القرض الحسن الذي يثاب صاحبه إنظار المعسر وإمهاله حتى يتمكن من أدائه ، أو إقالته عند الشدة أو إعفاؤه من الدين إذا ظل عاجزاً عن سداده ، قال تعالى { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } البقرة 280 ، وقال صلى الله عليه وسلم { من أنظر معسراً أو وضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله } رواه الترمذي ، ومعنى وضع له أي أقاله من الدين كله أو أسقط جزءاً منه .
ومع أهمية الدين والثواب العظيم عليه إلا أن الله سبحانه كفل الحق المالي للدائن ، فأجاز له اقتضاء هذا الدين والمطالبة به ، ولكن ؛ حتى يتمكن من ذلك فلا بد من إثباته ، وليتسنى له ذلك فلا بد من توثيقه وحفظه ، ويكون ذلك بعدة صور وأساليب ، قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } البقرة 282 .
علمتنا هذه الآية الكريمة بأدق التفاصيل كيفية توثيق المعاملات المالية بين الناس وفي مقدمتها الديون ، ومن ورائها توثيق جميع المعاملات الأخرى ، فالتوثيق يحفظ الحقوق من الجحود والضياع ، ويقي أطراف التعاملات من أسباب الاختلاف والتنازع أو الوقوع في الظلم ، وقد بلغ الاحتياط في عدم الحيف على المدين أن الله سبحانه أمر بأن يكون هو أو وليه مَن يملي صيغة وثيقة الدين ووجهه بتقوى الله لئلاَّ يبخس الدائن حقه أو ينكره . فأهمية التوثيق لئلا يقع في العقود والحقوق نسيان أو جحود ، ففي الكتابة حفظ الأموال وإزالة الريب ، وإذا كان الغريم تقياً غير نسيّ فلا يضره ذلك .
وتتعدد صور توثيق المعاملات : الكتابة ، الإشهاد ، الرهن ، الكفالة ، والإقرار، واليمين ، الحجر ، والحبس ، الملازمة ، والغرض العام من هذه الصور جميعها ضبط المعاملات وصيانة الحقوق من الضياع . ولولي الأمر الحق كاملًا في إصدار التشريعات المناسبة لإلزام الناس بتوثيق العقود والمعاملات ذات الخطر والتي تؤثر على حياة الناس أو يكثر فيها النزاع والتجاحد ، ويكون في هذا مصلحة واحتياط للدين والدنيا على السواء .
فيمكن للدائن توثيق دينه عن طريق الكفالة ، وهي ضم ذمة الكفيل إلى المدين في تحمُّل الدين عنه في حالة عجزه أو رفضه الوفاء للدائن ، فقد ضمن صلى الله عليه وسلم غيره في معاملات مالية ، قال ابن عباس رضي الله عنهما { أن رجلًا لزم غريماً له بعشرة دنانير على عهد رسول الله عليه وسلم ، فقال الغريم : ما عندي شيء أعطيكه ، فقال والله لا أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل ضامن ، فجرَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كم ستنتظره ؟ قال شهراً ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أحمل } رواه ابن ماجه ، أي أنا أضمن ، وهذا الحديث دليل أيضاً على جواز التوثيق بالملازمة .
وتكمن أهمية توثيق الدين بالرهن في أنه يمكّن الدائن استيفاء حقه بعد حلول الأجل إن لم يوفه المدين ماله له ؛ بأن يرفع الأمر إلى القاضي فيبيع الرهن وينصفه منه ، وقد ثق صلى الله عليه وسلم الدين بالرهن ، فقد اشترى من يهودي عشرين صاعاً من طعام بثمن مؤجل ، ثم رهن عند اليهودي الدائن درعه على ذلك الثمن وتوفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عنده .
وينبغي للمدين أن يسارع في سداد حق أخيه ، فقد نَجَدَهُ وأنقذه وآزره في ظرفه العصيب الذي تعرض له ، فيستحق منه ألاَّ يحبس ماله ، وألا يسوّف في ذلك ما دام قادراً ، فمماطلة المدين القادر على السداد محرمة لأنها ظلم للدائن ، قال صلى الله عليه وسلم { مطل الغني ظلم } رواه البخاري ، ولذلك يجوز للقاضي أن يحبسه أو أن يظهر إعساره لقوله صلى الله عليه وسلم { ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته } رواه البخاري ، والليّ هو المماطلة ، والواجد هو القادر على السداد .
فمما يؤسف له أن كثيراً من المدينين يماطلون وهم قادرون ، ويمكثون السنين الطويلة دون أداء ما عليهم ، بل إن منهم من يخاصم الدائن إذا طالب بدينه ويقاطعه ، فينقلب إلى مذنب لأنه يقتضي حقه ، وهذا مما لا يليق بمؤمن أبداً ، فإن من نوى السداد وفقه الله لذلك ، والظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بنا الآن يعاني آثارها جميع الناس ، فلا يكون جزاء الإحسان إلا الإحسان .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت