ما قبل استقالة فيّاض وما بعدها

بقلم: هاني المصري


أخيرًا استقال سلام فيّاض وقَبِلَ الرئيسُ الاستقالةَ، ولكنّ الحكاية لم تنته عند هذا الحد، لأن الطلب من فيّاض أن تستمر حكومته في تسيير الأعمال، وفي ظل عدم التقدم على طريق تطبيق اتفاق المصالحة وحالة الانتظار لما يمكن أن يحققه كيري بعد أن منحه الرئيس مهلة شهرين لعله ينجح في استئناف المفاوضات؛ يطرح احتمالًا بأن تبقى حكومة تسيير الأعمال لفترة قد تمتد لسبعة أسابيع، إذا تم الالتزام بالقانون الأساسي، وفترة أطول إذا وافق فيّاض على ذلك أو على إعادة تكليفه بتشكيل الحكومة مرة أخرى، بالرغم من نفيه لهذا الاحتمال على أساس أنه لم يستقل حتى يعود خلال فترة قصيرة.

لم يكن ممكنًا بعد التدخل الأميركي المهين من أجل الإبقاء على فيّاض سوى أن يصر فيّاض على الاستقالة، وأن يقبلها الرئيس، ولكن الأسئلة التي بحاجة إلى إجابة عنها: لماذا حدث ما حدث؟ وإلى أين سنسير بعد الاستقالة؟

إن الاستقالة وقبولها بعد سلسلة أزمات وخلافات، كانت في البداية بين أوساط من "فتح" وفيّاض، وأصبحت بين "فتح" وفيّاض، لأن "فتح" تعتبر أن من حقها أن تحكم الضفة ما دامت "حماس" تحكم غزة، وإذا أراد فيّاض أن يكون رئيسًا للحكومة؛ عليه أن يعرف أنه موظف عندها بدرجة رئيس حكومة.

بعد وقوع الانقسام كانت "فتح" تحت وقع صدمة خسرانها قطاع غزة، فوافقت بسهولة مع وجود أصوات معارضة على تولي فيّاض رئاسة الحكومة، حتى ينهض بها، ولكن على أساس أن هذه الحكومة حكومة طوارئ تستمر لفترة قصيرة، يتم بعدها تشكيل حكومة برئاسة "فتح" أو بقيادتها بوجود رئيس حكومة مستقل ولو كان "فيّاض" نفسه، ولكن لم تجر الرياح بما تشتهي سفن أوساط في "فتح"، وذلك لأن الرئيس منح فيّاض كل ثقته، لأنه ينسجم مع التوجهات السياسيّة الرئاسيّة ورؤية آفاق واحتمالات الحل السياسي، ويتمتع بدعم دولي عالٍ وبمهنيّة ممتازة، والأهم تمتعه بثقة لا محدودة من الأميركان، بما يمكنه من الحصول على دعم مالي مستقر، ولكونه شخصيّة مستقلة يتيح هامشًا من المناورة للرئيس، لأن وجود مركز ثقل إلى جانب "فتح" والفصائل الأخرى المنضوية في إطار المنظمة و"حماس" والجهاد الإسلامي يمنح الرئيس هامشًا واسعًا للحركة.

لقد وصلت ثقة الرئيس ودعمه لفيّاض إلى أن خوّله بعض صلاحياته، خصوصًا على بعض الأجهزة الأمنيّة التي مرجعيتها الرئيس وفقًا للقانون الأساسي.

بدأ الرئيس بسحب الغطاء السياسي عن فيّاض عندما شعر أنه بات قويًا وطموحًا أكثر مما ينبغي، في ظل ضعف دور "فتح"، والفصائل، والمنظمة، وغياب المجلس التشريعي الذي منح الرئيس صلاحيات تشريعيّة إضافة إلى صلاحياته التنفيذيّة، وبعد أن أخذ يتصرف بصورة مستقلة ومتزايدة عن الرئيس، كما بدا في عدة محطات، أبرزها الخلاف على التوجه نحو الأمم المتحدة، وبعدما طرح خطة للمصالحة من دون تشاور مع الرئيس، وبعد أن شعر الرئيس أن "فياض" مفروض عليه وليس مستمرًا في منصبه باختياره، وخاصة عندما تدخلت الإدارة الأميركيّة في كل مرة يتم فيها توقيع اتفاق على المصالحة، للقول إنها متمسكة ببقاء فيّاض رئيسًا للحكومة، حتى في مرحلة ما بعد توقيع اتفاق القاهرة، لدرجة أن وزيرة الخارجيّة الأميركيّة آنذاك، هيلاري كلينتون، اعترضت في مكالمة هاتفيّة مع الرئيس على استبعاد فيّاض في "إعلان الدوحة"، الذي ينص على تولي الرئيس مهمة رئاسة الحكومة الوفاقيّة، وعندما احتج الرئيس قائلًا لها: إن الحكومة ستكون برئاسته وبرنامجها سيكون برنامجه، قالت إن هذا شأن داخلي، ولكنها سارعت بعد ذلك بإبلاغ موقف أميركا بالاعتراض على "إعلان الدوحة".

في ظل ما سبق، بدأ أبو مازن بتجريد فيّاض من صلاحياته ومراكز قوته من خلال زيادة عدد الوزراء المحسوبين على الرئيس، الذين لا يدينون بالولاء لفيّاض، ثم في استعادة السيطرة على أجهزة الأمن حتى التي ضمن صلاحيات الحكومة، ثم في تعيين وزيرًا للماليّة رغمًا عن إرداة فيّاض، وهذا الأمر أدى إلى تداعيات أبرزها استقالة نبيل قسيس، الذي عانى من التجاذب بين الرئيس ورئيس الحكومة، ومن اتخاذ قرارات لها أعباء ماليّة من دون علمه؛ ما دفعه إلى الاستقالة التي قبلها فيّاض على الفور بالرغم من رفض الرئيس لها، وكانت هذه القشة التي قصمت ظهر البعير.

المشكلة ليست في استقالة وزير الماليّة، ولكن في وجود سلطة مرتهنة للمساعدات وللاتفاقات والالتزامات المجحفة، وفي بروز رأسين في السلطة، يساعد على بروزهما التدخلات الخارجيّة، ونابعة من النظام السياسي الفلسطيني المختلط (رئاسي برلماني)، الذي فرض علينا بعد تدخلات خارجيّة استهدفت استحداث منصب رئيس الحكومة في سياق إضعاف الرئيس الراحل ياسر عرفات، لأنه بات يمثل "قيادة إرهابيّة"، والمطلوب كما قال جورج بوش الابن إيجاد قيادة فلسطينيّة جديدة ومختلفة تحارب الإرهاب بصورة لا هوادة فيها.

لقد شرب فيّاض من الكأس التي شرب منها الرئيس "أبو مازن" حينما كان رئيسًا للحكومة، وكان عليه أن يختار بين أن يكون موظفًا بدرجة رئيس وزراء أو أن يرحل.

كان على فيّاض الاستقالة منذ سنوات، وسبق وأن قَدَّمْتُ له شخصيًّا هذه النصيحة مرتين، عشيّة وغداة توقيع اتفاق المصالحة في الرابع من أيار 2011، وكان عليه الاستقالة في نفس اليوم الذي برز فيه أن الخلاف بين "فتح" و"حماس" حول أن يكون هو رئيس حكومة التوافق الوطني أم لا، وأن هذا الخلاف هو إحدى العقبات أمام المصالحة، ولكن جرى تصويره وكأنه العقبة الرئيسيّة، مع أن الحقيقة ليست كذلك.

كان عليه أن يستقيل بعد توقيع اتفاق المصالحة، وبشكل أكثر إلحاحا بعد "إعلان الدوحة" في شباط 2012، الذي نص على تشكيل حكومة برئاسة الرئيس، وعندما برز أن فيّاض لم يعد يحظى بالغطاء السياسي من "فتح" والرئيس، خصوصًا أنه لا يجب أن يقبل إصرار الإدارة الأميركيّة على تصويره بأنه مفروض على الفلسطينيين.

كان على فيّاض الاستقالة عندما فشل برنامجه في إقامة المؤسسات وإثبات الجدارة لإنهاء الاحتلال عن طريق اضطلاع المجتمع الدولي وأميركا بالمسؤوليّة عن إجبار إسرائيل على تسوية، وعندما لم يتحقق برنامجه للاستغناء عن المساعدات الخارجيّة كليًا مع حلول العام 2013، وذهب من أجل تحقيق وعده إلى فرض ضرائب حملت المواطن أعباء إضافيّة تزامنت مع العقوبات الأميركيّة والإسرائيليّة على خلفيّة الانضمام الفلسطيني إلى اليونيسكو والاعتراف الأممي بالدولة المراقبة، ما أدى إلى عجز مالي وديون متراكمة وعدم انتظام في دفع الرواتب.

هل يتحمل فيّاض المسؤوليّة عما جرى من إنجازات وإخفاقات لوحده؟ لا بالتأكيد، بل يتحمل المسؤولية الرئيس والمنظمة و"فتح" كل بحسب الصلاحيات والإمكانات والشرعيّة التي يتمتع بها، وخاصة أن برنامج فيّاض السياسي، بشكل عام، ينسجم تمامًا مع برنامج الرئيس.

جذر المأزق الفلسطيني العام لا يعود في جوهره إلى الخلاف بين "فتح" والرئيس وفيّاض، بحيث يكون الحل برحيل فيّاض، خصوصًا وأن المطلوب أن يكون رئيس الحكومة القادم لا يختلف من حيث التوجه السياسي عن فيّاض، لأنه يجب أن يكون مناسبًا للتعامل مع الإدارة الأميركيّة وملتزمًا بشروط اللجنة الرباعيّة واتفاق أوسلو، بالرغم من أن إسرائيل لم تعد ملتزمة به، وأن متطلبات الحصول على الدولة المراقبة تقتضي سياسة جديدة مختلفة عما قبلها جذريًا.

هل سنبقى بانتظار نجاح جهود كيري وتحقيق المصالحة، أم يتم اعتماد إستراتيجيّة جديدة بديلة من الإستراتيجيات المعتمدة حتى الآن، إستراتيجيّة لا يمكن أن تكون من دون قبول "فتح" والرئيس تحديدًا لـ"حماس" وبقيّة الفصائل ومكونات الشعب الفلسطيني كشركاء حقيقيين في المنظمة والسلطة، بحيث يأخذ كل طرف ما يستحقه وفقا لوزنه الحقيقي على الأرض، تقوم على أساس مراجعة التجربة، والأخذ ببرنامج جديد مختلف وأكثر صلابة من برنامج المفاوضات كطريق وحيد.

وعلى "حماس" أن تقبل بأن تكون جزءًا من الوطنيّة الفلسطينيّة والنظام السياسي من دون الرهان على التغييرات العربيّة والمرجعيات الأخرى. نظام تعددي ديمقراطي يؤمن بالمساواة بين المواطنين بغض النظر عن اللون والجنس والدين، ويدافع عن حقوق الإنسان وحرياته الأساسيّة، ويؤمن بالفصل بين الدين والمؤسسات المدنيّة والسياسيّة.

يأتي ذلك في سياق الاتفاق على إعادة بناء المنظمة بوصفها المرجعيّة والإطار والكيان والممثل الشرعي والوحيد، الذي يساعد الاتفاق عليها على حل كل الخلافات المتبقيّة، كما يمكن الاتفاق بعد ذلك على تشكيل حكومة وحدة وطنيّة تشارك فيها الفصائل والمستقلون، وليس حكومة مستقلين فقط تم الموافقة عليها رضوخًا للضغوط الخارجيّة، بحيث تقوم بتهيئة الظروف لإجراء انتخابات حرة ونزيهة تجعل إمكانيّة تعطيل إجرائها ومصادرة نتائجها من الاحتلال في أضيق نطاق ممكن.

لا يمكن عزل ما جرى بخصوص فياض عن المنافسة على وراثة القيادة الفلسطينية بعد "أبو مازن"، سواء داخل "فتح" أو بينها وبين "حماس". إن الأزمة أزمة فقدان الأفق السياسي وعدم وجود خيار جديد قادر على الانتصار.


الثلاثاء, 16 نيسان (أبريل), 2013

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت