لماذا تخشى قوى الاسلام السياسي العلمانية

بقلم: نافذ غنيم


ليس جديدا أن يحتدم الصراع بين الاتجاهات والتيارات الفكرية في واقعنا العربي المعاصر، فهو امتداد لحالة الجدل الحامي الوطيس تاريخيا، لاسيما بين الاتجاهات الفكرية التي تنطلق من أسس متباينة، لتعبر في نهاية المطاف عن مصالح الفئات الاجتماعية التي تتصارع من اجل مصالحها، وليس غريبا أن تلجأ بعض الاتجاهات إلى استخدام أساليب التشويه وتزوير الحقائق، واستخدام بعض المعتقدات لإرهاب الجمهور، مستفيدة من واقع الجهل والتخلف، وأحيانا سذاجة البعض الذين لا يحسنوا التعامل مع الأشياء بوعي وصولا لحقائقها .
ومن ابرز ما تشهده ساحتنا العربية الصراع المحتدم بين العلمانية والإسلام السياسي، وهنا أقول الإسلام السياسي وليس الدين، ذلك لسبب بسيط، هو أن العلمانية تعني رؤية العالم او الواقع والتعامل معه بشكل موضوعي بعيدا عن الأحكام المسبقة والمطلقة العاطفية او الأخلاقية أو الدينية العامة، وهذا يعني الالتقاء ومفهوم العلم بمعناه الموضوعي، ولا يعني رفض الدين أو القيم او الأخلاق او التراث، او البعد الروحي للإنسان، ولا يعني رفض الهوية الذاتية أو القومية، وهنا يمكن القول ليس بالضرورة أن يكون كل علماني غير مؤمن او غير مسلم، أو ملحد، وبالمقابل ليس كل متدين او مسلم غير علماني .
في هذا الصدد يكثف المفكر المصري التقدمي محمود العالم القول "إن الخلاف ليس بين العلمانية والإيمان، إذ من الممكن أن يتعايشا وان يتفاعلا وان يتعاونا، وإنما الخلاف بين العلمانية من ناحية، والفهم الأصولي للدين، والفكر الديني المتعصب الذي يتسم بالجمود والنصية الحرفية واللاتاريخية والاطلاقية المتزمتة والنزعة الاستعلائية الاقصائية . ان العلمانية ليست فقدانا للهوية، وتقليصا وطمسا لإنسانية الإنسان، وعمقها الروحي والثقافي وخصوصيته القومية، وليست قمعا لمخيلته ولقدرته المعرفية والإبداعية، وإنما هي رؤية وسلوك ومنهج يحمل الملامح الجوهرية لإنسانية الإنسان، ويعبر عن طموحه الروحي والمادي للسيطرة على كل المعوقات التي تقف في طريق تقدمه وسعادته وازدهاره إلى غير حد، وهي ليست صيغة واحدة نهائية اطلاقية، بل جهد متراكم من الخبرات والتضحيات والنضالات عبر التاريخ الإنساني المشترك رغم ما فيه من خصوصيات واختلافات، أنها طريق فسيح صاعد لكل قوى الخير والعدل والديمقراطية والاستنارة والتقدم والإبداع، سواء كان منطلقات هذه القوى قومية او ماركسية او يسارية او إسلامية، فالعلمانية هي أساس للديمقراطية ومرتكز لها، لأنها تفترض بل تحتم التعدد والتمايز والتغاير والتجدد والتطور والنقد والتجريب والتجاوز، ولا تحتكر الحقيقة بحسب ثوابت مطلقة، ولا تسقط الخلاف والاختلاف في وهدة الإقصاء، والتكفير والإبادة الجسدية ." ويضيف العالم " ينبغي التمييز بين علمانية الحضارة الغربية الراهنة التي هي حضارة إنسانية عامة لعصرنا، وبين نظامها الرأسمالي الامبريالي الذي يسيطر على العلم والنهج العلماني ويفرغهما من مضمونهما المعرفي والإبداعي الإنساني، ويوظفهما خدمة لأهدافه ومصالحه الاستغلالية والتوسعية " .
إن التعامل مع العلمانية فكرا وتطبيقا لا يأتي بمعزل عن خصوصيات كل مجتمع من حيث مسارات تطوره المادي والروحي، وان كان من خطا في تجربة التحديث العلماني لاي بلد، فهذا يعود لخطا في المنهجية العلمانية التي ينبغي أن تراعي التمايزات والاختلافات والخصوصيات، وهنا يجدر القول، على علمانيي بلادنا مراعاة طبيعة الثقافة السائدة في مجمعنا، والتي يشكل الإسلام جوهرها، إضافة إلى الخصائص التي تميز مجتمعنا الفلسطيني عن غيره من المجتمعات العربية والإسلامية الأخرى .
إن الفرق الجوهري بين من يؤمنون بالعلمانية من ناحية نظرية وتطبيقية، وبين الآخرين ممن يعتقدون بأفكار مطلقة الصوابية وامتلاكهم الحصري للحقيقة، يتمثل في أنهم يفتحون الآفاق لكل فئات المجتمع للتفكير والاعتقاد وممارسة قناعاتهم بما لا يضر الآخرين، وبعيدا عن أن يُفرض على المجتمع مسارا محددا للتطور، أو ليرغم أفراده على الالتزام بما لا يريدونه .
هناك فرق بين فكر يساوي بين أفراد المجتمع ويحترم إنسانية الإنسان، ويؤمن بالشراكة ويكفل الحريات العامة والخاصة لأفراده ويلتزم القانون، وبين فكر يفرق بين الناس على أساس المعتقد والانتماء السياسي، ويعتمد الإقصاء والتكفير والتخوين نهجا في التعامل مع كل من يخالفه الرأي، ويتعامل مع الديمقراطية بطريقة انتقائية وبما يخدم مصالح جماعة بعينها، ويحاول فرض أجندته الخاصة على كافة أفراد المجتمع وصولا لنمط اجتماعي محدد .
إن كافة المؤمنين بأهمية علمنة بلادنا أي كانت منطلقاتهم الفكرية بحاجة لان يتوحدوا في الدفاع عن هذا النهج الإنساني الحضاري، وان لا يترددوا في شرح وتوضيح المضمون الحقيقي الحضاري للعلمانية، وكيف أنها تشكل مرتكزا أساسيا لوحدة المجتمع وتطوره، وان يتصدوا بكل جرأة لكل الذين يحاولون تشويه ذلك، من خلال وضع العلمانية في تعارض مع الدين، عليهم أن يوضحوا بان هناك فرق بين الإسلام السياسي وبخاصة فكره المتشدد، وأولئك الذين يوظف الدين خدمة لمصالحهم الدنيوية تحت شعار "الحاكمية الإلهية"، وبين جوهر ومضمون الدين القائم على الحرية والتسامح والوحدة، واحترام الإنسان كقيمة غالية مهما كان انتماؤه السياسي أو الفكري أو الاجتماعي، وما يسمح بالتعددية وتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، ونبذ العنف المجتمعي بكافة أشكاله وأساليبه . عليهم أن يؤكدوا حقيقة أن العلمانية هي من يحترم الأديان وكافة المعتقدات، وهي من يفتح الآفاق واسعا أمام كل الذين يؤمنون بالأديان ويحرصون على ممارستها بعيدا عن أساليب الفرض أو الإكراه، وعندما تدعو العلمانية لفصل الدين عن السياسة، إنما هي بذلك تحمي جوهر الدين النبيل والإنساني من شوائب وممارسات قوى الإسلام السياسي الدنيوية بكل تجلياتها، وتفتح المجال واسعا أمام علاقة الإنسان بربه بعيدا عن المسارات الفكرية التي تريد استلاب إرادة الفرد وفقا لتوجهات محددة، وأحيانا متعارضة تربك المجتمع، وتضفي طابعا صراعيا تناحريا بين القوى السياسية، حتى تلك التي تنطلق من ذات الدين والمعتقد . كما أن العلمانية تضع هذه القوى أمام حقيقة ممارساتها التي تعبر موضوعيا عن مصالحها الجماعية والفردية المغلفة بطابع ديني، وتفضح حقيقة خوفها من حرية الفرد والمجتمع، لان في ذلك تعارض صارخ مع نهجها القائم على الاستحواذ على إرادة الجماهير او السيطرة على الحكم من خلال إرهاب المجتمع بإسم الدين، والادعاء بان من يخالف نهجها وسياستها إنما يخالف تعاليم الله !!
غزة – 18/4/2013م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت