العصر الذهبي الأمريكي في زمن الانكشاف العربي

بقلم: إبراهيم أبراش

ليس مرامنا في هذا المقال تسجيل موقفا معاديا لأمريكا، ليس حبا بالولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها،بل لإدراك راسخ بأن السياسة لا تعرف الفراغ وأن البقاء للأصلح والأقوى، وأنه لا يجوز أن ننتقد القوي لأنه قوي بل يجب أن ننتقد الضعيف لأنه يستسلم للقوى ويقبل بالأمر الواقع . إن مرامنا من هذا المقال هو تسجيل موقف كاشف لواقع عروبيين لم يعودوا عربا وواقع إسلامويين لم يعودوا مسلمين،وواقع (ربيع عربي) ثبت انه خريف أسقط أوراقا كانت تخفي كثيرا من عورات جماعات وأنظمة ،وكشف زيف نخب سياسية ودينية لم تتورع في سبيل وصولها للسلطة عن توظيف وتجيير الإسلام لصالح الولايات المتحدة الأمريكية ،وبطبيعة الحال فإن من يتحالف مع واشنطن لا يمكنه أن يكون معاديا لإسرائيل.ولكم أن تتصوروا مستقبل القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي في ظل الانكشاف العربي والتحالفات الراهنة.

يمكن القول بدون مبالغة وبالشواهد التاريخية والأرقام والإحصائيات أن واشنطن تعيش عصرها الذهبي في منطقة الشرق الأوسط وفي المنطقة العربية على وجه الخصوص .من اليمن والخليج العربي إلى ليبيا ودول المغرب العربي مرورا بمصر والأردن والعراق، يبرز التواجد الأمريكي بشكل سافر سواء من خلال قواعد عسكرية رسمية أو تنسيق واتفاقات أمنية أو تسهيلات عسكرية ،حتى يجوز القول أنه لا توجد من بين 22 دولة عربية دولة - غير السودان ونظام الأسد في سوريا- تعلن موقفا معاديا لواشنطن أو لا تربطها علاقة صداقة معها أو بينهما اتفاقات أمنية وعسكرية ،فالكل يحاول كسب ودها والتقرب منها بل لا تتورع دول عن دعوة واشنطن لتُقيم قواعد عسكرية في أراضيها أو تتبرع لتقدم تسهيلات للمارينز الأمريكي إن احتاج لضرب دولة عربية أو مطاردة جماعة مسلحة معادية لواشنطن .

في الخمسينيات والستينيات كان الحديث عن تواجد قاعدة أمريكية في بلد عربي أو تقديم تسهيلات للأسطول الأمريكي أو توقيع اتفاقات أمنية الخ بمثابة تهمة خطيرة تصل لدرجة الاتهام بالخيانة العظمى للوطن وللأمة العربية ،آنذاك كان مجرد الحديث عن وجود قواعد أمريكية سرية في هذا البلد أو ذاك أو وجود خبراء ومستشارين تهمة تسارع الأنظمة المتَهَمة بنكرانها والتبرؤ منها ،ولم يكن نظام أو حزب يجهر بعلاقته بواشنطن أو الغرب ككل ،فالوطنية الحقيقية والانتماء القومي الحقيقي والثورية والتقدمية كانت في تلك المرحلة تساوي معاداة الغرب وسياساته،وكان البيان الأول لكل ثورة (انقلاب عسكري ) وديباجة كل حزب جديد تبدأ بالتأكيد على هدف التحرر من الاستعمار المباشر وغير المباشر ورفض التبعية للغرب وعلى رأسه واشنطن ،أما اليوم فتتبارى الأنظمة وغالبية الأحزاب الوطنية والدينية على التقرب لواشنطن وطلب ودها ومساعدتها ،وبات وجود قواعد أمريكية في أي بلد مفخرة للنظام ومصدر طمأنينة له ووجود قوات عسكرية ومستشارين مصدر فخر للجيش لأنه يدل على قوة الصداقة والثقة التي تمنحها واشنطن لهذا الجيش ،أما المثقفون والمفكرون العرب فباتت واشنطن قبلتهم ورضاها غايتهم وتوجيه دعوة لزيارة أمريكا في دورة أو ضمن برنامج ما غاية المنى ودلالة على سمو مكانة المثقف والمفكر لدرجة أن أمريكا تدعوه لزيارتها ،وباتت الأنظمة العربية وكيلة واشنطن في المنطقة تضع إمكاناتها المالية في تمويل مثقفين ومفكرين ودعاة وجماعات دينية ومراكز أبحاث ومؤسسات مجتمع مدني الخ .

لا يعني ذلك دعوة لمقاطعة الغرب وواشنطن كما لا ننظر لأمريكا كشيطان أو عدو يجب محاربته ،فالعالم اليوم نتيجة العولمة بات قرية صغيرة ولا يمكن لدولة حتى الصين أن تعيش بمعزل عن بقية الدول أو تقطع علاقتها مع واشنطن ،أيضا لا أتهم كل من يزور أمريكا بخيانة مبادئه وقيمه الوطنية لأن التثاقف والحوار مع الآخر ضرورة لتطوير العقل والمعرفة .إن ما نرفضه أو نتحفظ عليه هو الارتماء في حضن الغرب والتسليم بالإستراتيجية الأمريكية في المنطقة كقدر لا فكاك منه ،فهناك فرق بين تبعية تبادلية وندية تقوم على الاحترام والمصالح المتبادلة ،والتبعية الالحاقية حيث تخضع و تستسلم دولة لدولة أخرى دون مقاومة وتفرط حتى بالكرامة الوطنية وبالمقدسات الدينية.

ما قبل ما سماه الرئيس الأمريكي اوباما بـ (الربيع العربي) أو ما بات يوصف بدرجة من المبالغة (الثورات العربية) كانت واشنطن تواجه صعوبة في التعامل مع ملفات متعددة كالعراق وأفغانستان وتنظيم القاعدة وصعوبة في تطبيع الشعوب العربية لسياساتها وصعوبة في التطويع الكامل للأنظمة العربية لسياساتها حتى الأنظمة الصديقة لواشنطن كنظام حسني مبارك في مصر وبن علي في تونس وصالح في اليمن،صحيح أن الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة لم تكن فاشلة ولكنها كانت تواجه تحديات وتتخوف من حراك شعبي كبير يطيح بمصالحها في المنطقة وبما حققته من انجازات بسبب استبداد وفساد حلفائها وبسبب تحيزها الفاضح لإسرائيل .

كان لا بد لواشنطن من إستراتيجية استباقية ليس فقط لضمان مصالحها الراهنة وتحالفاتها القائمة بل أيضا لضمان مصالحها المستقبلية،ومن هنا وظفت واشنطن حالة الغضب الشعبي على الأنظمة وانغلاق أفق الإصلاح ضمن بنيات وسياسات الأنظمة القائمة ،ووجود جماعات الإسلام السياسي المعتدلة وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين التي تتطلع للوصول للسلطة بأي ثمن،وظفت كل ذلك لتربطه أو تدمجه ضمن سياسة الفوضى الخلاقة التي وضع أسسها اليمين الجديد في واشنطن في عهد بوش الابن منتصف العقد الماضي،حتى تعيد رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة بما يؤمن مصالحها وأمن إسرائيل لسنوات قادمة وبما يضمن عدم استنهاض المشروع القومي العربي التحرري من خلال تعزيز الطائفية والإثنية ،والفوضى والحرب الاهلية داخل أي دولة تستشعر واشنطن أنها مؤهلة لقيادة هذا المشروع القومي – مصر والعراق وسوريا – وهنا علينا ملاحظة أن هذه الدول الثلاث لا تشهد مجرد إسقاط النظام بل عملية تدمير ممنهجة للدولة والمجتمع .

إن كانت السياسة صراع متواصل على المصالح والنفوذ ،وإن كانت الإستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة معروفة منذ عقود إلا أن الجديد أن الإستراتيجية الأمريكية الراهنة لا تسعى فقط للهيمنة والسيطرة بل تتجاوز ذلك لمصادرة مستقبل الأمة من خلال ركوب موجة الحراك الشعبي وتجييره لصالحها متحالفة مع الإسلام السياسي ،والخطير في هذا السياق توظيف الإسلام لخدمة الإستراتيجية الأمريكية بعد أن كان يُراهن عليه لإخراج الأمة من كبوتها .أن يتم توظيف الإسلام لصالح الإستراتيجية الأمريكية فهذه جريمة كبرى لا تشفع لها أي أعذار كالقول بأن الثورات تعيش في مرحلة انتقالية تحتاج لتحالفات اضطرارية ! أو الزعم بأن الوضع الاقتصادي المتردي يتطلب دعم واستثمارات لا يمكن ان تصل إلا من خلال واشنطن وحلفائها ! أو أن واشنطن تتدخل لدعم مطالب الشعوب بالحرية والديمقراطية وكأن الديمقراطية تعم العالم العربي ما عدا الدول التي شهدت (ثورات ) !.

الغرب عموما - وواشنطن على وجه الخصوص- يعيش عصره الذهبي من ناحية علاقته بمنطقة الشرق الأوسط ،في مقابل حالة انكشاف عربي مفتوح على كل الاحتمالات ،ومن أبرز مظاهر العصر الذهبي الأمريكي مقابل الانكشاف العربي:

- الهيمنة الأمريكية الكاملة على المنطقة سواء من خلال القواعد الأمريكية وخصوصا في قطر ودول خليجية أخرى وليبيا،أو من خلال تواجد عسكري كالعراق وأخيرا في الأردن ،أو من خلال اتفاقات أمنية وعسكرية وصفقات تسلح .

- حرب الإسلام المعتدل الحاكم مع الإسلام المتطرف – مصر وغزة والعراق واليمن وداخل صفوف المعارضة السورية-

- ظهور الطائفية بكل أطيافها بشكل غير مسبوق : شيعة وسنة ،مسلمين ومسيحيين الخ.

- تراجع المشروع القومي العربي وتفتت الدولة الوطنية في مواجهة صعود المشاريع الأخرى كالمشروع الصهيوني والمشروع الفارسي والمشروع التركي.

- تردي الوضع الاقتصادي في دول (الربيع العربي)

- تزايد الاستيطان والتهويد الإسرائيلي في الضفة والقدس والعدوان على قطاع غزة بشكل غير مسبوق.

- تراجع المصالحة الفلسطينية وتكريس الانقسام



‏21‏/4‏/2013

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت