الوطن البديل والتنازل عن حق العودة محرم شرعاً

بقلم: تيسير التميمي

هذا هو الإسلام
الوطن البديل والتنازل عن حق العودة محرم شرعاً

منذ خمسة وستين عاماً مضت ، وفي مثل هذه الأيام من كل عام يحيي أهلنا في فلسطين الوطن وفي المهاجر والشتات ذكرى نكبتهم ، النكبة التي شردت أبناء شعبنا الفلسطيني من بيوتهم وأراضيهم ، وأخرجتهم من وطنهم بغير حق ، النكبة التي تسببت في تقتيلهم ونهب ممتلكاتهم واغتصاب وطنهم وتحويلهم إلى لاجئين يهيمون في الشتات مشرَّدين مهجَّرين ، مجرَّدين من الحماية .
حدث ذلك بمؤامرة دولية واضحة لمن يستعرض التاريخ ويقرأه جيداً ، فقد خضعت فلسطين للانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى ، واستمر حتى عام 1948 ، وبحسب القوانين والتشريعات المتعارف عليها عالمياً أنه بعد انتهاء الانتداب على أي بلد يجب إعادة تسليم البلاد إلى أصحابها الحقيقيين ، إلا أن الانتداب البريطاني قرر الانسحاب من فلسطين وتسليمها إلى اليهود في محاولة واضحة لتطبيق وعد بلفور الذي صدر عام 1917م ، فبعد اندلاع الثورة في فلسطين ضد اليهود الغزاة المغتصبين واستمرارها لعدة سنوات ، وبعد إنشاء الأمم المتحدة شكلت بريطانيا لجنتين لإنهاء النزاع بين الفلسطينيين واليهود ، فاقترحت اللجنتان تقسيم فلسطين .
ازدادت الضغوط السياسية على هيئة الأمم المتحدة وتنامت لقبول اقتراح التقسيم ، فصدر القرار رقم 181 المجحف في حق الفلسطينيين ؛ وهم السكان الأصليون ويمثلون الأكثرية العربية ونسبتهم 67% مقابل 33% من اليهود الذين استقدموا سريعاً في عمليات هجرة مكثفة ومتسارعة من دول العالم خلال عدة سنوات ، فقد أعطى الاقتراح 56.5% من فلسطين لليهود الذين كانوا يملكون 7% فقط من التراب الفلسطيني ، ولكن هذه الدولة الوليدة سيطرت أثناء أحداث النكبة والمجازر التي ارتكبتها ضد الفلسطينيين على أكثر من 73% من الأراضي الفلسطينية .
ثم طالت سنين النكبة والغربة وآلام الفرقة عليهم وتواصلت سنة في إثر أخرى ، حتى تجاوز عددهم اليوم سبعة ملاين ينتشرون في بقاع الأرض وأصقاعها ومنافيها ، ويشكلون أكبر مجموعة لاجئين على مستوى العالم ، وما زالت قضيتهم أقدم قضية لجوء بين الشعوب المعاصرة . وخلال العقود الستة الماضية لم يكتف الاحتلال بحرمانهم حقهم في العودة ، بل يستميت في قتل أمل العودة في قلوبهم وأرواحهم .
يستذكر الشعب الفلسطيني في يوم النكبة الزحف الصهيوني الحاقد على أرض فلسطين المقدسة ؛ وارتكابه المجازر الدموية ضده واغتصاب أرضه ، وإقامة دولة الفساد والإفساد فيها بعد تشريد أهلها منها في البلاد بقوة الحديد والنار ، في عملية تطهير عرقي استهدفت وجوده في مدنه وقراه الفلسطينية ، وفي جريمة حرب لن تسقط بالتقادم ، بل سيحاكم كل من ارتكبها وأسهم فيها من أصغر جندي إلى أكبر مسؤول في كيان الاحتلال ، وسيلاحق كل من دعم وآزر مجرميها ويقدم للمساءلة القانونية أمام القضاء الدولي ، نص على ذلك ميثاق روما الذي أنشئت على إثره محكمة الجرائم الدولية .
لقد ابتلي الشعب الفلسطيني بنوع من الاحتلال لم يعرفه التاريخ ولا العالم المعاصر ، احتلال إحلالي توسعي استيطاني يرمي إلى تحويل أرضنا إلى وطن بلا شعب لتكون وطناً لليهود ، فاستقدم إليها المغتصبين من كل مكان ليحلوا محل أصحابها الشرعيين ، وأعاق عودتهم إليها بشتى السبل .
إن إحياء هذه الذكرى لا يكون بالمهرجانات والمسيرات والخطابات والتغني بحق العودة ، وإنما بالتأكيد عليه والعمل على تطبيقه في الواقع ، لأنه من أهم ثوابتنا الوطنية التي لا نحيد عنها ولا تبديل لها ولا تغيير ، وهو لب القضية الفلسطينية العادلة بجميع أبعادها : البعد الديني والتاريخي والقانوني والإنساني ، فهو حق مقدس تجتهد إسرائيل في إنهائه واغتصابه كما اغتصبت الأرض والمقدسات لتتمكن من إنهاء الصراع بينها وبين الفلسطينيين والعرب والمسلمين ، لكن الشعب الفلسطيني عنيد في المقاومة ، مصر على التمسك بالعودة رغم القهر والمساومة .
فالعودة حق شخصي غير قابل للتصرف لكل من أبعد عن أرضه ويخص ورثته من بعده ، فيجب توريث هذا الحق جيلاً بعد جيل حتى يعودوا جميعاً إلى أرضهم وممتلكاتهم ، وهو حق عام لكل فلسطيني ويمثل بالنسبة له حق الانتماء إلى وطنه ، فكل فلسطيني وإن لم يكن يملك أرضاً أو عقاراً فيها شريك في كل ذرة من ترابها وفي كل نسمة من هوائها ، فالانتماء حق مرتبط بالهوية والوجود وبالامتداد الإنساني من الآباء والأجداد ومن بعدهم إلى الأبناء والأحفاد ، فلا يجوز لأي مواطن أن يقطع هذا الانتماء لأنه تراث الآباء والأجداد ، وحق موروث للأبناء والأحفاد .
وتعتبر العودة حقاً قانونياً للشعب الفلسطيني ، فقد ارتبط قبول عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة بموافقتها على قرار التقسيم رقم 181 الصادر في 29|11|1947 الذي ينص على [ وجوب قيام دولة فلسطينية ] ، واعترافها بقرار حق العودة والتعويض رقم 194 الصادر في 11|11| 1948 ، والذي ينص في أهم فقراته على [ وجوب السماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة في أقرب وقت ممكن إلى ديارهم ، ووجوب دفع الحكومات أو السلطات المسؤولة تعويضات عن كل فقدان أو خسارة أو ضرر في ممتلكاتهم ، بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقاً لمبادئ القانون ] فوافقت إسرائيل عليهما ، لكنها لما حصلت على الاعتراف بعضويتها تنكرت للمجتمع الدولي في هذين الشرطين ، وأعاقت تطبيقهما وما انبنى عليهما من قرارات وتأكيدات لعدة عقود منذ صدورها وحتى اليوم ، سواء في ذلك حق العودة والتعويض وحق إقامة الدولة الفلسطينية على الأرض الفلسطينية ، وليس هذا بالأمر المستغرب أو المستهجن منها ، فهذا ديدنها وأخلاقها في التعامل مع الأمم في الماضي والحاضر قال تعالى { أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } البقرة 100 . فليعلم العالم أن عدم تطبيق قرار إقامة الدولة الفلسطينية وعدم تنفيذ حق العودة والتعويض يفقد إسرائيل الاعتراف الدولي بها ، فهذا مفهوم اشتراط المجتمع الدولي لعضويتها الأممية .
إن قضية اللاجئين الفلسطينيين هي أعدل قضية لاجئين في العالم ، وهي قضية فريدة من نوعها لا نظير لها ؛ لذا احتاجت حماية المجتمع الدولي ومنظماته الرسمية جميعاً ، بل إن اللاجئين أنفسهم وحقوقهم يحتاجون الحماية ، فهم يشكلون ثلثي الشعب الفلسطيني ، وهذه أعلى نسبة لاجئين بين شعوب العالم على الإطلاق .
ولأن فلسطين أرض وقف إسلامي غير خاضعة للبيع ، فإن قبول اللاجئين أي تعويض بدلاً عن أراضيهم وممتلكاتهم أمر محرم وغير جائز شرعاً بإجماع علماء الأمة وفقهائها من السلف والخلف ، لأنه بيع للأرض وتنازل عنها للمحتل الغاصب ولو كان مقابل المبالغ الطائلة ، فقد أفتوا بحرمة ذلك قطعياً مطلع القرن الماضي ، وأحد منهم لم يخالف هذا الإجماع منذ ذلك الزمان وحتى اليوم .
أما فكرة تعويض اللاجئين عما عانوه من أضرار مادية أو نفسية حلت بهم وبأبنائهم وأحفادهم منذ النكبة فتمثل حقاً إضافياً آخر لهم ، لكنه ليس بديلاً عن حق العودة ولا ينفصل عنه لا بل هما حقان متلازمان لا ينفكان عن بعضهما . وتتحمل أعباء هذا التعويض جميع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وجيوشها والمنظمات الصهيونية وكل المؤسسات التي أسهمت في إيقاع الضرر بالشعب الفلسطيني لأنها الجهات التي تسببت بهذه الأضرار ، وتتحمله أيضاً جميع الدول التي أيدت وما زالت تؤيد إسرائيل وتساندها في إعاقة تطبيقه .
وهي فكرة ممكنة واقعياً وعالمياً ، فقد نفّذت بنجاح لبعض المتضررين في حرب البوسنة والهرسك مثلاً ، واستفاد منها بعض المتضررين من اجتياح الكويت ، ويتولى الخبراء والمختصون العالميون في هذا المجال تقدير قيمة التعويض .
ولن يقبل الشعب الفلسطيني أبداً بفكرة التوطين والإقامة في أي وطن آخر مهما كانت المغريات أو عظمت التضحيات ، فالتوطين القسري هو الآخر جريمة حرب كالتهجير ، لأنه يحرم اللاجئ الفلسطيني من حقه في العودة إلى أرضه وبيته ، ويعني نفيه وإلى الأبد خارج وطنه ، ويعني شرعنة الاحتلال ويمنح الغاصبين القادمين من وراء البحار ومن أصقاع الدنيا الحق في أرض الإسراء والمعراج .
إن الشعب الفلسطيني يمكن أن يقبل بالوطن البديل على شرط أن يُبارك الله تعالى حوله في كتابه الكريم ، وأن يرثه عن آبائه وأجداده ، وأن يكون فيه المسجد الأقصى المبارك ، وأن يُسرى إليه برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يفتحه الفاروق عمر ويحرره الناصر صلاح الدين ، وأن يُروى ثراه بدماء المجاهدين الأخيار والشهداء الأبرار . إن هذا من المحال ولا يمكن للشعب الفلسطيني أن يرضى عن أرض فلسطين بديلاً ولو كان فردوس الدنيا .
إن التمسك بحق العودة فرض لازم لا يجوز التنازل عنه مطلقاً لا من الناحية الشخصية ولا من الناحية العامة والوطنية ؛ لأنه ضمان لبقاء القضية الفلسطينية على قيد الحياة ، لذلك فإننا نشدد على شعبنا الفلسطيني في المنافي والمهجر والشتات أن يتمسك بأرضه ويصر على حقه في العودة الذي كفلته له الشرائع الإلهية والقوانين والمواثيق الدولية وألاَّ يفرط أبداً فيه ، ونشدد أيضاً على الدول العربية الشقيقة أن تؤازر الشعب الفلسطيني وتدعم حقه في العودة والتعويض ومقاومة فكرة التوطين ، وألاّ تعتبر الجنسية الممنوحة للاجئين الفلسطينيين فيها بديلاً عن هذا الحق الثابت ، بل أن تكون جنسية مؤقتة ريثما يتم التحرير الكامل لفلسطين التاريخية وإقامة الدولة الفلسطينية وعودة كافة الفلسطينين إليها ، قال تعالى { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } الأنفال 30 .
واليوم تأتي هذه الذكرى في ظل وضع مختلف ، ففلسطين اليوم أصبحت دولة تتمتع بصفة مراقب في الأمم المتحدة ، وهذه الصفة تمنحها صلاحية قانونية وتخولها مطالبة إسرائيل ؛ هذا الكيان الغاصب بتنفيذ كافة قرارات الشرعية الدولية التي صدرت عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة وعن مجلس الأمن الدولي بشأن القضية الفلسطينية .
ومن هنا فإننا ندعو القيادة السياسية الفلسطينية مجدداً إلى استثمار هذا الوضع القانوني الجديد ، والمسارعة في مطالبة المجتمع الدولي بتنفيذ كافة تلك القرارات الكثيرة لدى الجهات المختصة من منظماته ومؤسساته ، فهذا كان من أبرز مسوغات اللجوء إلى الأمم المتحدة لطلب الحصول على مقعد فيها .

الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت