تراجيديا النكبة بين مكانين

بقلم: علي بدوان


” فلسطينيو سوريا، أبرز ضحايا الأزمة الداخلية في سوريا الشام، وقد ذهبوا قرابين على مذبح صراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل، بالرغم من اتخاذ غالبيتهم الساحقة موقفاً متوازناً مما يجري في البلاد عنوانه بـ (الحياد الإيجابي) ومد اليد الفلسطينية لمساعدة سوريا بأجمعها من أجل بلسمة جراحها والخروج من أتون النيران التي تُدمر البلد.” ـــــــــــــ صَنَعت تراجيديا النكبة الفلسطينية الكبرى عام 1948 والنكبات التي لاحقتها كهزات ارتدادية، تاريخاً مأساوياً لشعب ما زال يحاول قهر المستحيلات، والبقاء على قيد الحياة، وهو يَحفُرُ طريقه بأظافره على الصخر الصلد والقاسي في بيئة إقليمية شديدة التعقيد، ويُعارك المصاعب التي ما زالت تعترض طريقه في دياسبورا المنافي والشتات وحتى داخل أرض وطنه التاريخي على امتداد أرض فلسطين من أقصاها إلى أقصاها. فلسطينيو سوريا، أبرز ضحايا الأزمة الداخلية في سوريا الشام، وقد ذهبوا قرابين على مذبح صراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل، بالرغم من اتخاذ غالبيتهم الساحقة موقفاً متوازناً مما يجري في البلاد عنوانه بـ (الحياد الإيجابي) ومد اليد الفلسطينية لمساعدة سوريا بأجمعها من أجل بلسمة جراحها والخروج من أتون النيران التي تُدمر البلد. فلسطينيو سوريا، عايشوا الحياة السياسية للبلد منذ قدومهم القسري من الإقليم الجنوبي لبلاد الشام إلى إقليمها الشمالي عام 1948، فكانوا على الدوام عنصرا إيجابيا وحيويا ساهموا ببناء الحياة العامة بجوانبها المختلفة وخاصة الثقافية منها والنهضة التعليمية التي كان اللاجئون الفلسطينيون عنواناً أساسياً فيها سنوات الاستقلال الأولى وحتى نهاية الستينيات من القرن الماضي من عمر سوريا الحالية. وفي هذا المجال، إن سوريا الدولة الوحيدة التي تَبَنَت في مدارسها العامة والخاصة تدريس لغة أجنبية مغايرة للغة المحتل الفرنسي لأرضها، على النقيض من حال الدول التي وقعت تحت الاحتلال الفرنسي كلبنان على سبيل المثال. إن مصدر ذلك التبني هو الرسالة التعليمية التي حَمَلها اللاجئون الفلسطينيون لسوريا عام النكبة، فكانوا هم طليعة مدرسي اللغات الأجنبية في عموم المدارس على امتداد الأرض السورية ولسنوات طويلة، وتحديداً اللغة الإنجليزية التي كانت اللغة

الثانية التي ينطق بها جميع الفلسطينيين تقريباً. في هذا السياق، وفي التغريبة الفلسطينية الأولى والكبرى عام 1948، كانت (قهوة السحابة) الشامية الشهيرة في حي الميدان الدمشقي آنذاك، المكان الأَنسب لفلسطينيي سوريا في اللقاء بين أهالي المدن والبلدات التي لجأ مواطنوها لسوريا بعد النكبة من أجل التواصل ومعرفة أخبار من خرج من حيفا ويافا واللد والرملة وصفد وطبرية والناصرة وغيرها من بلدات ومدن وقرى فلسطين، وأين حطت بهم المقادير بعد الخروج الكبير من فلسطين عام النكبة. فكل من كان يريد التقاط الأخبار لمعرفة مصير شخص فلسطيني، أو عائلة فلسطينية يذهب ليسأل (عنه أو عنها) هناك بين جموع من اللاجئين الفلسطينيين، فهذا الحيفاوي يسأل عن جاره، واليافاوي كذلك، واللداوي يسأل عن جاره الصفدي وهكذا .... وفي التغريبة الثانية التي يعيشها الآن فلسطينيو سوريا الآن بعد خروجهم القسري من عدد من مخيماتهم ومناطق سكنهم وتجمعاتهم بفعل الأحداث خصوصاً من مخيم سبينة، ومخيم درعا، ومخيم اليرموك المدينة الكبرى التي كانت عامرة بسكانها ومواطنيها من سوريين وفلسطينيين، باتت مقاهي دمشق الكبرى والتاريخية كقهوة الحجاز وقهوة الروضة ومقهى الكمال ... مواقع اللقاء والتواصل بين أبناء فلسطيني الذين يتلوعون على حال البلاد، على حال سوريا التي أحَبوها حُبهِم لفلسطين، منتظرين وبكل لهفة الوطنيين المخلصين خروج البلاد من محنتها وقد حققت سوريا والشعب العربي السوري المُبتغى والمراد. إنها تراجيديا النكبة الفلسطينية وقصة اللجوء والتغريبة الفلسطينية بين مكانين: مقهى السحابة في حي الميدان الدمشقي ومقاهي الحجاز والروضة والكمال، يضاف لهما أثير إذاعة دمشق التي كانت بعض برامجها تَصدح برسائل أبناء فلسطين لذويهم ممن تبقى داخل فلسطين المحتلة عام 1948، أو في بلدان الشتات كلبنان والأردن، وحتى في الضفة الغربية والقدس الشرقية زمن الإدارة الأردنية، وقطاع غزة زمن الإدارة المصرية. كاتب هذه السطور، ومعه والدته ووالده، أرسلوا أصوتهم في رسائل التحية والسؤال والاطمئنان عبر أثير صوت فلسطين من إذاعة دمشق عام 1967 ولم يكن يبلغ من العمر أكثر من سبع سنوات لأسرتهم الكبيرة في وادي النسناس في مدينة حيفا، وباقي أسرتهم في عتيل قضاء طولكرم، وفي عزون قضاء نابلس. أنها مأساة فلسطين التي تتكرر هذه الأيام متواليات من فصولها وما زال الشعب الفلسطيني حتى اللحظة وبالرغم من تلك الأهوال شعباً جباراً قادراً على التكيف مع كل الظروف والمعطيات... ولكن نقول لدنيا العرب والعروبة: ارحموا شعبنا وألطفوا به، فيكفيه ما عاناه وما زال يعانيه ويكابده من أوجاع وآلام منذ خمسة وستين عاماً من نكبته الكبرى. ارحموا شعبنا واتركوه سائراً مشدوداً على مسار واتجاه بوصلته نحو وطنه الأزلي فلسطين الإقليم الجنوبي لبلاد الشام التي بارك رب العالمين حولها، اتركوا تجمعات الشعب الفلسطينية ومخيماته فوق الأرض السورية ولا تحولوها لمسرح تطاحن عسكري، وارحموا أوطانكم أيضاً. إن الأزمة السورية دخلت منذ بداياتها منعطفات مُعقدة، أكبر من الشعب الفلسطيني، وأكبر من أي دور مؤثر لجزء منه مقيم فوق الأرض السورية، وقد فَتحت مفاعيل الأزمة المجال أمام تجاذبات دولية وإقليمية، يُفترض بالفلسطينيين أن يبتعدوا عنها حتى لا يكونوا جزءاً من ضحاياها نهاية المطاف. لقد علمتنا التجربة ودراما السيرة الفلسطينية خلال العقود الماضية أن الالتفافات الإقليمية والتجاذبات الدولية في أزمات الشرق الأوسط ترتد دوماً علينا، مهما كانت النوايا لأي طرف من أطرافها، وعليه كان الموقف المتوازن لعموم القوى الفلسطينية وللغالبية الساحقة من ابناء فلسطين في سوريا.

الخميس 2/5/2013
بقلم علي بدوان
صحيفة الوطن العمانية

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت