في عالمنا المعاصر لا توجد عولمة حقيقية، ولو بالحد الأدنى فيما يتعلق بالعمل البشري. وعلى الرغم، من حرية انتقال السلع والخدمات ورأس المال، لكن مختلف العراقيل والقيود، توضع لمنع انتقال أو هجرة قوى العمل، فالتفاوت في توزيع الثروة في تفاقم مستمر. وثمة تحوّلات جذرية، باتت تنشر ظلالها على الحياة الاجتماعية. أي إن النمو الاقتصادي، لم يعد يترك أي أثر يذكر على نمو دخول العمال. مما يؤدي، إلى تزايد الشكوك حول سلامة المجتمع ووحدته. فإذا كانت العبارة الأكثر تعبيراً عن اتّساع الهوّة بين الأغنياء والفقراء هي : الأغنياء يزدادون غنى بينما الفقراء يزدادون فقراً. ولكن الآن، وفي ظل الوقائع العالمية القائمة على تخفيض التقديمات الاجتماعية، وإعطاء المزايا والإعفاءات الضريبية، للشركات والأغنياء، فلم تعد هذه العبارة تكفي لتوضيح الصورة، حيث من الواضح، ظهور صيغة جديدة، تقوم على :
الأغنياء يصبحون أغنى والفقراء أفقر بمعدل أسرع.
فلقد نتج عن التقدم التكنولوجي وما يصاحبه من استخدام التقنيات بدل الأيدي العاملة، انخفاض نسبة حصة العمل من العائد المتحقق في الاقتصاد. بالمقابل، فإن حصة رأس المال من العائد، تزداد بشكل مطرد. ومستقبلاً، فإن هذا الواقع سينعكس سلباً على مشاركة العمال في الحياة الاجتماعية. إذ أن المستوى المعيشي، لا يتوقف على الدخل الذي يحصل عليه المرء فقط، وهذه حقيقة تتأكد باستمرار. فانتفاع المواطن من التقدم الاقتصادي والتكنولوجي، يزداد كلفة، وأمسى أكثر صعوبة أو على وشك أن يتلاشى كلياً. فاحتدام المنافسة بين الدول، سواء صناعية كانت أم نامية على خفض الأجور، لن يودي إلا إلى نتائج وخيمة، وسوف ينشئ على مستوى العالم أجمع، حركة لولبية تدفع الأجور إلى المزيد من الانخفاض، وهذا الانخفاض في الأجور، لن يزيد من مجمل رفاهية العالم والمجتمعات.
وفي سياق العلاقة بين البطالة والنمو، تبرز إشكالية معدلات النمو المرتفعة: فهل ارتفاع معدل النمو الاقتصادي يحل إشكاليات البطالة؟ أم أن فرص العمل المتزايدة، هي التي تخلق النمو؟؟ وكذلك، لا بد لنا من الإشاره أيضاً، إلى الإشكالية الأساسية في عالمنا المعاصر في إطار التنمية وهي: إشكالية الفجوة بين الأغنياء والفقراء، أي إشكالية النمو الاقتصادي:
فهل نحن في عصر، الاقتصاد من أجل الاقتصاد، وليس من أجل المجتمع؟؟
فالنمو الأقتصادي بمفردة، لا يمكن يؤخذ كشاهد ذي بال على مقدار العائد، الذي تتوقف عليه رفاهية المجتمع. إذ من البديهي أن تؤدي الهوّة بين دخول أصحاب المشاريع ومُلاّك الثروة من ناحية، ودخول العمال من ناحية أخرى، إلى تزايد الشكوك حول سلامة المجتمع ووحدته. فالرهان على خفض الأجور، لن يؤدي إلى أكثر من، تحجّر الوضع الاجتماعي المؤلم. وهذا الواقع يطرح إشكالية مَن يتحمل الأعباء: رأس المال أم العمل؟
وبعيداً عن التنظير، ووفقاً للإحصائيات والمعطيات حول الهوّة الاقتصادية، وإذا أخذ بعين الاعتبار أن النسبة الكبرى من المواطنين، هم عمال أو موظفين يعملون بأجر، فمن هذا المنطق يمكن القول، إن الاقتصاد لم يعد يعمل لمصلحة الجمهور العام. فمنطقياً، تبقى الوقائع القائمة على مصلحة الجمهور، هي المعيار الأساسي لتقييم السياسة الاقتصادية الناجحة. وانطلاقاً من ذلك، يلاحظ أن الحكومات ترمي الأعباء الضريبية، على كاهل عنصر العمل أكثر فأكثر، والإعفاءات والتسهيلات والمنح الضرائبية المقدمة للشركات، ينتج عنها انخفاض في إيرادات الدولة المالية، والتي تعوّضه عن طريق زيادة الضرائب على الطبقات الأخرى، أو عن طريق تقليص الخدمات
والرعاية الاجتماعية والصحية.
فمثلاً، تفاجئنا، السرعة الفائقة في توفير المبالغ الخيالية لحل الأزمة المالية العالمية منذ العام2008 مقابل العسر، الذي يعرف عادة في تمويل برامج متواضعة لفائدة الإنسانية. على سبيل المثال، يكفي مبلغ عشرات المليارات سنوياً، للقضاء على الجوع وسوء التغذية في العالم كله. ومنذ سبعينيات القرن العشرين أقرت الأمم المتحدة، برنامجا لتحقيق هذا الهدف. ولكنه، وللأسف الشديد، بقي حبراً على ورق لعدم توفر التمويلات الضرورية ؟؟
أن العمالة أصبحت اليوم، تعيش بين فكي كماشة، نتيجة المنافسة الحادة، ويبدو أن الكثير من الدول، أضحت رهينة سياسة لم تعد تسمح بأي توجه آخر. فإذا كانت التجارة الحرة وانتقال رؤوس الأموال والبضائع والخدمات عبر الحدود، هي التي تحقق النمو والرفاه، _ وفي حال تم تحقيق أهداف منظمة التجارة العالمية، بألغاء القيود الكمية، وتوحيد كافة الضرائب الجمركية، وجعل العالم منطقة تجارة حرة عام2020 _ فهل هذا سيؤدي إلى تعميق أزمة سوق العمل ؟ أم أنه سيكون بمثابة، نقطة التغيّر والتحوّل الإيجابي، لصالح عالم العمل ؟
سلام الربضي باحث ومؤلف في العلاقات الدولية
هذا المقال بمناسبة اليوم العالمي للعمال
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت