في ذكرى النكبة المستمرّة منذ خمسٍ وستين عاماً تستحضر الذاكرة الجمعية واقع التراجيديا الفلسطينية الأكثر إيلاماً ووجعاً عبر فصولٍ ومحطات لاتنتهي بل تشتدّ وطأتها عاماً بعد أخر جراء تشريد شعب أصيل عن وطنه وقع ضحية قوى الهيمنة والنفوذ الإستعماري لأكبر مؤامرة عالمية عرفها التاريخ المعاصر ، حين اختلّت موازين العدل وانهارت مفاهيم القيم الأخلاقية والإنسانية واصدرت المنظمة الدولية شهادة ميلادٍ زائفة مبنيةً على شعوذات الأيديولوجيا الصهيونية المصنوعة في دهاليز مؤتمر بازل السويسري قبل غرّة القرن الماضي بثلاث أعوام ،إذ منحت أرض فلسطين التاريخية مهد الرسالات السماوية إلى من لا يستحقّ لإقامة كيانٍ غريب عن جغرافية المكان والزمان ، بالمقابل أضحى الشعب الفلسطيني في ذلك اليوم المشؤوم فريسة عصابات الإجرام الصهيونية المدعومة من حكومة الإنتداب البريطاني حيث روعّت السكان الأمنين وأقدمت على ارتكاب المجازر لطردهم من بيوتهم كتعبير صارخ عن سياسة التطهير العرقي الممنهجة ، كما ساهمت الدول العربية التي تولّت زمام التصدي للعصابات الصهيونية وفقاً لقرار الجامعة العربية بعد إرسالها جيش الإنقاذ لما عرف بحرب فلسطين عام 1948 م بقيادة الجنرال البريطاني "غلوب باشا"وقامت بترحيل العوائل الفلسطينية ومنعت الثوار من مواجهة العدوان تحت ذريعة عدم إعاقة الخطط العسكرية وأصدرت قرارات تقضي بحل جميع المنظمات شبه العسكرية في فلسطين ثم عزلت جميع الأحزاب والهيئات السياسية عن متابعة القضية الفلسطينية أو الإشتراك في العمليات العسكرية ، وقال المؤرخون البارزون لتلك الحقبة الزمنية أن النظام الرسمي العربي كان لديه اتفاقيات غير معلنة مع الحكومة البريطانية بأن لايتجاوز أي تحرك عسكري حدود قرار التقسيم الدولي رقم "181 "إضافة إلى عدم إظهار الحماسة لدى بعض العرب لفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة وكذلك كان الأمر تجاه حكومة عموم فلسطين التي شكّلها "أحمد حلمي عبد الباقي" في الثالث والعشرين من سبتمبر ومقرّها قطاع غزة ولم يتمّ الإعتراف بها على المستوى العربي أو الدولي ، بعبارة أخرى إبقاء الوصاية العربية على قضية الشعب الفلسطيني ومصادرة قراره الوطني المستقل ، بينما ساهمت عوامل هامة أيضاً في مقدمتها ضعف وتردد وتبعية القيادة الوطنية الفلسطينية أنذاك وعدم المامها الكافي لمجريات الأمور وإدراك مخاطر ماكانت تخططله الحركة الصهيونية ماجعلها غير مؤهلة لقيادة الحركة الوطنية بشكلٍ مستقّل وفق استراتيجية واضحة المعالم ، وهذا ماحدث بالفعل بعد أقل من عام على الكارثة خلال توقيع العرب فرادى اتفاقيات رودس والهدنة مع الكيان الغاصب.
لقد تنامى الوعي الوطني الفلسطيني باتجاه التصدّي لمهمات تحرير الأرض الفلسطينية بسواعد ابنائها ، مع تعاظم دور الأحزاب والحركات القومية العربية الناشئة في خمسينات القرن الماضي التي أجمعت برامجها على اعتبار قضية فلسطين هي القضية المركزية الأولى للأمة العربية ومسألة تحريرها من براثن الإحتلال الصهيوني واجب ملزم على كل عربي لاستعادة مكانتها وإعادة الإعتبار اليها إلى جانب سعيها لضرورات الوحدة العربية ورؤيتها للخلاص من التبعية السياسية والإقتصادية للدول الإستعمارية،وبالتالي تشكلت عشرات الأحزاب والحركات والجمعيات ذات البعد القومي التحرري قبل انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة منتصف الستينات التي باشرت عملها العسكري على نطاق واسع بعد نكسة حزيران القاسية التي منيت بها الأنظمة العربية وخسرت فيها اراضٍ على الجبهات السورية والأردنية والمصرية كان لها تداعيات كارثية أدت الى نزوح كبير أضاف عبئاً ثقيلاً وأعاد إنشاء مخيمات جديدة لأهالي الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان ، حيث أجبرت على غضّ الطرف عن انطلاقة مرحلة الكفاح المسلح الفلسطيني لامتصاص غضب الشارع العربي الناقم على تخاذل الأنظمة المهزومة ، ولكن شهر العسل هذا لم يدم طويلا بعد أن شعرت هذه الأنظمة مخاطر حالة الإصطفاف الشعبي العارم التواق للحرية والإنعتاق من مخلفات الماضي السحيق، مايعني عدم قدرتها على ضبط الإيقاع وفق ماكانت تريد الأمر الذي جعلها تتحرك بسرعة لكبح جماح المقاومة الفلسطينية المتصاعد من خلال استهدافها مباشرةً وحرفها عن مسارها باتجاهات متعددة أدت إلى خوض صراعات وحروب جانبية .
للنكبة إرهاصات ومفردات لاتقتصرعلى الجانب السياسي حسب ، إنما طالت أسس وركائز المجتمع الفلسطيني الذي لجأ ثم نزح نحو دول الجوار العربي على أمل العودة للديار بأقصى مايمكن من وقت، وقلّة هاجرت إلى الخارج وكذا الأمر للفئة اللاجئة داخل الأراضي الفلسطينية أوتها الخيام أسوة بأقرانهم خارج الأراضي المحتلة وباتت الأسر الفلسطينية موزعّةً على اكثر من مكان لا يجمعها سوى خيام الذّل والهوان وسوء المعاملة والحرمان من أبسط مقومات الحياة الأدمية وظلم ذوي القربى تحت ذرائع وحجج واهية للحفاظ على القضية الفلسطينية من الذوبان في إطار المجتمعات العربية كما يزعمون ، وبالتالي يحرم الفلسطيني من المسكن وحرية العمل والتملك والتنقّل وإصدروا له وثائق خاصة تميّز اللاجيء عن غيره ولا تؤهله الدخول لبعض الدول التي تمنحه هذه الوثائق ، كما فرضت عليه الخدمة الإلزامية في جيوش التحرير الفلسطينية التابعة لرئاسة أركان هذه الدول بما يخدم سياساتها الداخلية وزجّها في أتون الصراعات الأقليمية اذا لزم الأمر واستخدامها أحيانا ضد الثورة وجماهيرها ،أما الجزء الأصيل من شعبنا الذي أثر البقاء على أرض الأباء والأجداد بالرغم من إرهاب المحتلين فلا زال يخوض النضال الدؤوب للحصول على حقوقه كاملةً في مواجهة القوانين العنصرية والتهويد وتغيير الملامح الجغرافية والديمغرافية ومحاولات إلغاء الذاكرة الفلسطينية من قاموس النكبة ، أمام كل ذلك استطاعت الثورة الفلسطينية من إعادة الإعتبار للقضية الفلسطينية على الخارطة الدولية وتراكم الإنجازات بكان أخرها إعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بدولة فلسطين عضومراقب خطوة على طريق الإعتراف الكامل الذي ينبغي استثمار مزاياه بالإنضمام إلى الوكالات الدولية خاصة محاكم جرائم الحرب وتقديم الجناة إليها، وتمكنّت من استعادة التمثيل الفلسطيني بقيادة منظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني باعتبارها الكيان المعنوي والسياسي الجامع ولازالت تخوض غمار الصراع مع الإحتلال الغاشم الذي يسعى إلى تقويض أسس الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني،لكن الكفاح الوطني سيستمرجيلا ًبعد جيل حتى تحرير الأرض وتجسيد الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين الى أرضهم وديارهم التي شردوا منها عنوةً بكونه يشكّل جوهر المشروع الوطنى .
إن ذكرى النكبة التي تتفرع عنها اليوم نكبات وكوارث عديدة بحق مخيمات شعبنا في الشتات وزجّهم في دائرة الدم المستباح التي تأكل نيرانها شبابنا وأسرنا وتهيم بهم في اللا مكان مكشوفة الظهر دون ذنب ارتكبوه ، تحتم على جميع القوى الفلسطينية النهوض بواقع المشروع الوطني الفلسطيني وتحمل مسؤولياتهم التاريخية بما يتناسب وحجم التحديات الكبيرة التي تواجهه ، لذلك ينبغي الخروج من دوامة المراوحة في المكان وتنفيذ اتفاق المصالحة الوطنية على قاعدة ماتم الإتفاق بشأنه دون إبطاء أو تسويف وتثوير كافة الطاقات الكامنة لدى شعبنا وتوفيرالإمكانيات في مواجهة الإحتلال البغيض وحلفاؤه في البيت الأبيض عرّابي الحلول القاتلة لحقوق الشعب الفسطيني .....وإلا ستبقى أثار النكبة تطارد الفلسطيني أينما وجد ......
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت