جون كيري، وزير الخارجيّة الأميركي، لديه حلم بأن بمقدوره تحقيق ما عجز عن تحقيقه أسلافه الذين سبقوه خلال عشرات السنين، وهو التوصل إلى حل للصراع العربي الفلسطيني – الإسرائيلي.
على ذمة الراوي، قال كيري لعدد من أصدقائه وزعماء المنطقة في مستهل ولاية أوباما الأولى بأن أميركا ستتوصل إلى حل لأزمة الشرق الأوسط في الفترة الرئاسيّة الثانية، فكأنه كان واثقًا من فوز أوباما مجددًا، ويخطط منذ ذلك الوقت للحصول على منصب "وزير الخارجيّة".
منذ استلامه منصبه، أعطى كيري اهتمامًا كبيرًا للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، فقام بجولات عديدة في المنطقة خلال أشهر قليلة، بالرغم من أن هذا الملف ليس من أولويات الإدارة الأميركيّة، فبعد الأولويات الداخليّة، التي أبرزها الأزمة الاقتصاديّة، هناك الأولويات الخارجيّة، مثل العلاقات مع دول آسيا الكبرى، وخصوصًا الصين وكوريا الشماليّة وأفغانستان، والملف النووي الإيراني، وروسيا، وأوروبا، والمتغيرات العربيّة، خصوصًا ما يجري في مصر وسوريا، وبصورة خاصة السلاح الكيماوي واحتمال استخدامه، أو وقوعه في أيدي جماعات متطرفة، أو إلى حكم غير مناسب في سوريا أو إلى حزب الله.
طلب كيري من الرئيس عباس تجميد توجهه الأممي، وأن يمنحه فرصة شهرين ليتمكن من التوصل إلى صيغة تسمح باستئناف المفاوضات، وكان له ما أراد، والفترة تكاد أن تنتهي من دون أن يحقق هدفه، وأفادت مصادر رسميّة فلسطينيّة وغيرها، أن كيري – الذي لم يطرح خطته حتى الآن – طلب تمديد المهلة لمدة أسبوعين أو أكثر.
تتميز حركة كيري بما يأتي:
يحيط بجهود كيري جدار سميك من السريّة، بحيث لا يتسرب منها سوى القليل.
اختار كيري إقناع إسرائيل وليس الضغط عليها، وذلك يتطلب تبنيًا جوهريًا للرؤية الإسرائيليّة للحل، آخذًا العبرة من فشل رئيسه أوباما في بداية فترة رئاسته الأولى عندما حاول الضغط عليها لوقف الاستيطان ولم يحصد سوى الريح.
قام كيري بالضغط على الفلسطينيين والعرب، مطالبًا بتغيير وتعديل مبادرة السلام العربيّة لكي تقبلها إسرائيل، وذلك من خلال: إضافة مبدأ تبادل الأراضي (وليس تعديل الحدود) كما حاولت أوساط فلسطينيّة وعربيّة أن توحي، خلافًا للحقيقة بعد المعارضة الواسعة للتنازل الذي قدمه الوفد السباعي الممثل للجامعة العربيّة؛ وتعاون إقليمي، بمعنى البدء بتطبيق مبادرة السلام العربيّة فيما يتعلق بتطبيع العلاقات العربيّة معها قبل التوصل إلى اتفاقيّة سلام، بحجة أن إسرائيل بحاجة إلى طمأنة بعد عدم الاستقرار التي تشهده المنطقة بفعل الثورات العربيّة؛ وتغيير ما هو وارد بها بخصوص القدس، بما يسمح بتقسيم القدس الشرقيّة وفقًا لمبادرة كلينتون؛ وبخصوص اللاجئين من خلال التخلص من العبارات التي تشير إلى "حل عادل" و"حق العودة" وقرار 194؛ والاعتراف العربي بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي.
يسعى كيري إلى توفير غطاء ومشاركة عربية لأنه يدرك أن الفلسطينيين لا يستطيعون تقديم التنازلات الجسيمة المطلوبة منهم من دون ذلك، لهذا السبب نراه يركز على تغيير "مبادرة السلام العربيّة" منذ البداية.
وفي هذا السياق جاء توقيع الاتفاقيّة الأردنيّة – الفلسطينيّة المفاجئة حول المقدسات في القدس، التي أخرجتها رسميًا من ولاية الفلسطينيين، وأدخلت الأردن كطرف مفاوض؛ لتمكين كيري من تفكيك قضيّة القدس "عقدة العقد" إلى أجزاء يمكن التعامل معها بسهولة.
طلب كيري من عباس تجميد الجهود لإنجاز المصالحة الفلسطينية، لأن تحقيقها قبل أن تعترف "حماس" بشروط الرباعيّة يعطل جهود استئناف المفاوضات ويقوّي "حماس"، وهذا غير مطلوب.
تتضمن رؤية كيري العمل على ثلاثة مسارات بصورة متزامنة ومتوازية، السياسية والأمنيّة والاقتصاديّة، وعندما فشل في الحصول على شيء جوهري من الحكومة الإسرائيليّة على المسار السياسي أخذ يركز على المسار الاقتصادي، ووعد برزمة مشاريع اقتصاديّة، وتسربت أنباء مخادعة عن المليارات التي ستُصَب، وأعلن عن موافقة عباس ونتنياهو على ذلك، وهذا يدل على تغير في الموقف الفلسطيني السابق الذي كان يرفض التركيز على الاقتصاد خشية من الانجرار إلى "السلام الاقتصادي" الذي دعا إليه نتنياهو منذ البداية.
ركّز كيري على البدء بالتفاوض حول الحدود والأمن في محاولة لتذليل الخلاف حول تجميد الاستيطان الذي حال دون استئناف المفاوضات طوال السنوات الماضية.
رهان كيري الأساسي هو على أن العرب الآن في أسوأ أحوالهم في ظل ما انتهى إليه "الربيع العربي" حتى الآن، من مفاقمة تبعية العرب وتجزئتهم وتفتيت بلدانهم وانشغال كل بلد بشؤونها وصراعاتها الداخليّة، وفي ظل حاجة بلدان الخليج لوقف امتداد "الربيع العربي" إليهم، ووقف التهديد الإيراني الذي يتم تصويره كخطر دائم وأولويّة تسبق أولوية الصراع مع إسرائيل والمشروع الاستعماري الذي تمثله في المنطقة.
كيري سيقدم لإسرائيل صفقة مغرية جدًا يعتقد أنها لا يمكن أن ترفضها بسهولة وهي إقامة تحالف عربي أميركي إسرائيلي ضد إيران، وفتنة سنية شيعية، وفتنة أردنية فلسطينية، وفلسطينية فلسطينية، وأردنية أردنية، وتغيير "مبادرة السلام العربيّة" لكي تصبح مبادرة "إسرائيليّة"، تبدأ باستعداد العرب لتطبيع العلاقات معها والموافقة على مبدأ تبادل الأراضي، وما يعنيه ذلك من شرعنة للاستيطان ولتقسيم القدس والضفة الغربية، وتنتهي بالاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وإسقاط قضية الجولان المحتل كليًّا من المفاوضات، وترتيبات أمنية كاملة لإسرائيل، وبتوقيع معاهدة سلام عربية - إسرائيلية.
إن العقبة الكأداء في وجه نجاح جهود كيري أن إسرائيل بالرغم من الاغراءات الهائلة المقدمة لها يمكن ألا تقبل بهذه الصفقة، لأنها تعتقد أن بإمكانها الحصول في المستقبل بعد استمرار تداعيات "الربيع العربي" على صفقة أفضل منها. كما أن جزءًا كبيرًا مما هو مطروح عليها في هذه الصفقة تحت قبضتها فعلًا.
إن ما سبق يفسر ردة فعل نتنياهو على قبول الوفد السباعي لتبادل الأراضي الذي يشكل تنازلًا عربيًا كبيرًا يضاف إلى التنازلات السابقة بما فيها الموافقة الفلسطينية على هذا المبدأ، بقوله "إن أصل الصراع ليس على الأرض بل على إسرائيل وضرورة الاعتراف بها كدولة يهوديّة"، فالأرض كلها بيد إسرائيل ولا تحتاج إلى مبادلة أراضٍ فيها بل تحتاج إلى الاعتراف بأنها أرض "إسرائيل الموعودة"، وبعد ذلك يمكن وأشدد على كلمة "يمكن" أن توافق على التخلي عن السيطرة على السكان، ولكن ضمن ترتيبات وضمانات تسمح بأن لا تقوم لـ "الدولة الفلسطينيّة العتيدة" قائمة لا الآن ولا في المستقبل.
إسرائيل تتذرع بالدفاع عن موقفها المتعنت بأن أي اتفاق مع العرب غير مضمون في المستقبل في ظل ما أكدته الثورات العربيّة بأن لا شيء ثابت في المنطقة، لا الشعوب ولا الحكام ولا البلدان، وأن إسرائيل لا يمكن أن تراهن على توقيع اتفاقيات مع حكام معرضين للسقوط، خصوصًا وهي تدرك الآن أن أهميتها في الإستراتيجيّة الأميركيّة والغربية للمنطقة ازدادت كثيرًا، فهي الحليف الدائم والموثوق في المنطقة.
إضافة إلى ما تقدم، فإن الإدارة الأميركيّة التي فشلت سابقًا في إقناع إسرائيل بتجميد الاستيطان ستفشل بإقناعها في التفاوض والاتفاق على الحدود، إلا إذا هبط السقف الفلسطيني والعربي إلى الحضيض أكثر، وهذا ما حصل حتى الآن، حيث رفض نتنياهو المقاربة الأميركية ويطالب بالاتفاق على إعلان مبادئ أولًا، يتضمن الإطار العام للاتفاق حول القضايا الأساسية، وخصوصًا فيما يتعلق بضرورة الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية وإنهاء الصراع والكف عن المطالب، وترتيبات أمنية تضمن إسرائيل في المستقبل.
فليس لدى نتنياهو ما يخشاه إذا استمر في تعنته، لأنه يعني استمرار الأمر الواقع المناسب لإسرائيل في ظل عدم وجود خيارات وبدائل عربية أخرى، بعد أن حصل الفلسطينيون على الدولة المراقبة وتصرفوا هم والعرب بعد ذلك وكأن شيئًا لم يحصل.
إن الخطورة تكمن في استمرار اللهاث الفلسطيني والعربي وراء التوصل إلى حل من دون أن يملك العرب أوراق القوة التي تفرضه، مما يجعلهم مستمرين في مسلسل لا ينتهي من التنازلات، وبدلًا من حل نهائي خلال عام أو عامين كما يبشر كيري، سنجد أنفسنا أمام استمرار الأمر الواقع تحت غطاء الاستثمارات الاقتصادية المليارية والكونفدرالية مع الأردن وخطوات بناء الثقة، أي استمرار الحلول الانتقالية التي تصفي القضية الفلسطينية على دفعات إلى أن تنضج الظروف لتصفيتها مرة واحدة.
إن الخشية الحقيقيّة ليست من فشل كيري وإنما من نجاحه، لأن ذلك يعني التوصل إلى تصفية للقضيّة الفلسطينيّة تحمل اسم "تسوية"، وما هي كذلك على الإطلاق، والرهان الفلسطيني والعربي لإفشالها ليس على أنفسهم، بل على إسرائيل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت