في ذكرى النكبة فلسطين أرض وقف إسلامي عصية على التنازل أو التفريط
يوم أليم ؛ يستذكر فيه شعبنا زحف الصهاينة بحقدهم المسعور ؛ فارتكبوا المجازر ضده واغتصبوا أرضه ، وأقاموا فيها دولة الفساد والإفساد وشردوا أهلها في البلاد بقوة الحديد والنار في جريمة حرب لن تسقط بالتقادم ، بل سيلاحق مرتكبوها وكل من دعمهم ومكَّنهم ومدهم بالسلاح وسيحاسبون أمام القضاء الدولي ، وبالأخص أن فلسطين أصبحت الآن دولة عضو في الأمم المتحدة بصفة مراقب .
ففي هذا اليوم يستذكر شعبنا هؤلاء المهاجرين المغتصبين الذين زحفوا في جنح الليل وظلمته إلى فلسطين على حين غفلة من أهلها ، بعد أن مكثوا دهوراً منذ توقيع العهدة العمرية ممنوعين أن يدخلوها ، فشكَّلوا عصابات همجية مارست كل أنواع الغدر والبطش والإرهاب فدمرت ما دمرت من مدنها وقراها واستولت على الأراضي والبيوت ، وذبحت وقتَّلت من قتَّلت من أهلها شيباً وشباناً وأطفالاً ، وهجَّرت مئات الآلاف ممن بقي حياً منهم في شتى بقاع الأرض ، فتسببت في نكبة متواصلة لشعب بأكمله لم يعرف لها التاريخ مثيلاً ، فقد اقتلعته من أرضه وهو المزروع فيها منذ فجر التاريخ راسخة هويته الحضارية على ترابها ، وأقامت كيانها الاحتلالي الإحلالي التوسعي الاستئصالي على حساب تاريخه ووجوده .
فقد وجد الشعب الفلسطيني نفسه ضحية الانتداب البريطاني الذي أراد التخلص من مشكلة اليهود في أوربا فتعهد لهم بلفور وزير الخارجية البريطاني بإقامة وطنهم القومي في أرض فلسطين المباركة بعد دراسة الاقتراحات الكثيرة (بعد مؤتمر بال بسويسرا وتأسيس الحركة الصهيونية العالمية واستجابة لمقترحات هرتزل) ، فدعم هجرتهم المكثفة وغير الشرعية إليها ، وقمع كل الثورات الفلسطينية والعربية التي هبَّت لمقاومتها ، وأسهم بشكل واضح فاضح في صدور قرار التقسيم عن الأمم المتحدة ولو أن بريطانيا امتنعت عن التصويت على القرار ، وبذا كانت المنظمة الأممية مشاركة في نكبة شعبنا برعايتها هذا القرار وتنفيذه في جميع مراحله بقراراتها أثناء وقوع العمليات الحربية في فلسطين ، ثم في قبولها عضوية إسرائيل فيها على الرغم من مخالفاتها لقراراتها وتحديها الصارخ لمبادئها وشرائعها وممارسة سياساتها العدوانية ، وكان الأولى بهذه المنظمة العالمية أن تصدر قراراً يمنح فلسطين استقلالها ويمكّن شعبها وأهلها الشرعيين من إقامة دولتهم على أرضهم .
أما عن بدايات هذه النكبة ؛ فلم يكن لليهود أي وجود في فلسطين حتى نهاية القرن التاسع عشر ، حيث كان عددهم نتيجة هجرتهم السرية إليها لا يتجاوز اثني عشر ألفاً ، لكنه تجاوز الخمسة والثمانين ألفاً في العقد الثاني من القرن العشرين نتيجة عمليات التهجير المتسارعة والمدعومة من بريطانيا والقادمة من أوربا ودول العالم الأخرى . وبدأت العصابات الغازية بإنشاء مشاريع زراعية واقتصادية لحساب المستوطنين الجدد ، وأنشئت لها تجمعات كبيرة من القرى والمدن على حساب الأراضي العربية الفلسطينية ؛ حتى لقد أصبحت تل أبيب أكبر المدن التي يسكنها اليهود وحدهم .
ومع أن وعد بلفور نص على أن بريطانيا لن تجحف بحقوق السكان الأصليين في فلسطين إلا أنها لم توفِّ بهذا الالتزام ، ولم تعمل على حماية حقوقهم المدنية أو الدينية أن يتم انتهاكها أو المساس بها .
رفض العرب جميعاً والفلسطينيون السكوت على ما يجري ، فاندلعت الثورات الشعبية في فلسطين منذ عشرينات القرن الماضي ، ثم بدأت الإضرابات الشاملة تعم مدنها وقراها احتجاجاً على غصب الأراضي والممتلكات الذي تقوم به العصابات اليهودية المسلحة مثل (الهاجاناه والأرجون والستيرن) بهجماتها العدوانية الدموية المتواصلة على الفلسطينيين ، وبذريعة فشل الانتداب البريطاني في وقف هذه النزاعات بين العرب واليهود فقد تم اقتراح تقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما عربية والأخرى يهودية ووضع الأماكن المقدسة في القدس وبيت لحم تحت الإدارة الدولية ، لكن العصابات الغازية رفضت هذا الاقتراح ، وواصلت هجماتها واعتداءاتها على الفلسطينيين ، بل وبدأت بمهاجمة قوات الانتداب البريطاني ذاتها للضغط على بريطانيا بهدف السماح بالهجرة اليهودية إلى فلسطين بعد أن كانت تظاهرت بمنعها في الثلاثينات ، وساعدها في تحقيق أهدافها تشكيل الحكومة العمالية في بريطانيا في الأربعينات بالإضافة إلى الضغط الذي مارسه الرئيس الأمريكي ترومان على بريطانيا مما تسبب في تكثيف موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، ورفع القيود على بيع الأراضي الفلسطينية لليهود ، وإحالة قضية فلسطين إلى الأمم المتحدة .
في العام 1947 قررت بريطانيا الانسحاب من فلسطين ، ثم صدر قرار التقسيم ، ولما تأكد اليهود من ذلك أعلنوا قيام دولتهم بتاريخ 15/5/1948 ، وقرروا فتح باب الهجرة من جديد لكل يهود العالم إلى هذه الدولة الغاصبة التي اتخذت شكلاً قانونياً بخديعة أممية ، فتغيرت التركيبة السكانية في فلسطين ، وأصبح اليهود أغلبية بعد ذبح الفلسطينيين وتشريد من بقي حياً منها بالحديد والنار ، فقد ارتكبت العصابات اليهودية العنصرية الحاقدة ضدهم أكثر من خمسين مجزرة دموية أودت بحياة عشرات الألوف من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال منذ عام 1937 وحتى بعد يوم إعلان قيام كيانهم الغاصب شملت مدن القدس وحيفا ويافا والرملة وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية .
أما من نجا من القتل والغدر من المواطنين الفلسطينيين والسكان الشرعيين لهذه الأرض فقد هجروا وشردوا قسراً بالتخويف والرعب والإرهاب خارج مدنهم وقراهم ، ويزيد عددهم عن سبعمائة ألف مواطن ، أقاموا في أنحاء من الأرض المحتلة عام 48 وفي الضفة الغربية وقطاع غزة ، ويقيم كثير منهم حالياً في الأردن وسوريا ومصر والعراق وبعض الدول الأجنبية ، وينتظرون عودتهم إلى ديارهم وبيوتهم وممتلكاتهم .
لم يكتف الاحتلال في العقود الماضية بحرمانهم حق العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي أخرجوا منها ، بل يستميت في قتل أمل العودة في قلوبهم رغم حقهم فيه الذي نصت عليه قرارات الأمم المتحدة . ثم طالت سنين النكبة عليهم وتواصلت سنة في إثر أخرى ، حتى تجاوز عددهم اليوم سبعة ملاين ينتشرون في بقاع الأرض وأصقاعها ومنافيها ، فباتوا يشكلون اليوم أكبر مجموعة لاجئين على مستوى العالم ، وقضيتهم ما زالت أقدم قضية لجوء بين الشعوب المعاصرة .
مضت كل هذه العقود ؛ وما زالت إسرائيل تمعن في إجراءاتها التعسفية ضد شعبنا ، وفي تنفيذ خطواتها التآمرية لتهويد المدينة المقدسة ولتقويض المسجد الأقصى المبارك ، وما زالت تمعن في ارتكاب جرائم الحرب ضد الإنسانية دون وازع أو رادع . وما زالت تمعن في تفريغ الأرض من أهلها لإحلال المغتصبين مكانهم .
لكن هذا الشعب الصابر المصابر المرابط لا ييأس ولا تنثني عزيمته ، بل يحدوه الأمل بالعودة إلى أرضه ووطنه ، إلى فلسطين التاريخية العصية على التفريط أو التنازل ، فلا شبر فيها إلا ومشت عليه خطى نبي أو ملاك ، ولا ذرة تراب فيها إلا جبلت بدماء الصحابة أو التابعين أو المجاهدين وقادة الفتح الإسلامي ، إلى الأرض المقدسة التي باركها الله وبارك حولها ، الأرض الطهور التي أوقفها العلماء والسلاطين والأمراء ، ولا ينقطع أمله بتحقيق حلمه في إقامة دولته الحرة المستقلة كاملة السيادة على هذه الأرض ، وإن كان الآخرون المثبطون يرونه بعيداً ، فإننا نراه قريباً ، ونوقن بأن الدماء الفلسطينية الزكية التي سفكت ظلماً وعدواناً على مر العقود الماضية لن تذهب هدراً ، قال تعالى { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } يوسف 21 .
إن إحياء ذكرى النكبة لا تكفي فيه المهرجانات والمسيرات والخطابات ، وإنما لا بد من التمسك به والعمل على تطبيقه في الواقع ، فهو حق شخصي غير قابل للتصرف أو التنازل يخص كل من أبعد عن أرضه ، ويخص ورثته من بعده جيلاً بعد جيل حتى يعودوا جميعاً إلى أرضهم ، وحق يمثل الانتماء إلى الوطن والارتباط بالهوية والوجود ، وبالامتداد من الآباء والأجداد إلى الأبناء والأحفاد ، فلا يجوز لأي مواطن أن يقطعه بالتنازل أو الاكتفاء بالتعويض عنه ، فكل فلسطيني وإن لم يمتلك أرضاً أو عقاراً في فلسطين شريك في كل ذرة من ترابها وفي كل نسمة من هوائها .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت