كان وسيمٌ ..طيب القلب رقيق المشاعر.. لما خرج من بيته في يوم من الأيام مغادرا كابوس الزحام الرهيب ..زحام الغرف الضيقة،وزحام الباعة، وزحام الناس الذين يزدادون بمرور الوقت ،في نفس البقعة المحدودة ، التصاقا ، وتفجيرا ..، توجه قاصدا السفر إلى مدينة بور سعيد للقيام بشراء بعض الحاجات التسويقية كالملابس الرجالي ،والحريمي ،وبعض الأحذية ،و الإكسسوارات التي يتاجر بها،وحتى يتمكن من إعداد نفسه للزواج ،فيكفي ما مضى من العمر، فهو في مقتبل الثلاثينات من العمر حقا ، إلا أنه قد بدت علامات التجاعيد تنسج خيوطها السرطانية لتغزو ملامح وجهه ، وقد ارتكزت انتفاخات بسيطة غير معقدة كحبات العدس تحت جفون عيناه ،من ينظر إليه لأول وهلة سوف يمنحه عمر أكبر من عمره بكثير !!، وبمجرد أن ركب سيارة الأجرة حيث جلس بالمقعد الخلفي ، إلا ورآها كانت فتاة جميلة الطلعة ..أنيقة الثياب بهرته بكل ما فيها فبشرتها الخمرية الساحرة اللون ، والتي تجمع بين لون البشرة البيضاء والسمراء ،وعيناها السود وان ، حتى منديلها الذي كانت تغطي به شعرها ، والذي قد تمردت من تحت جنباته خصلات غجرية من شعرها الأسود الفاحم ،وعلى عجالة استرق النظر خلسة بانتقاله إلى أصابع يديها الطويلة ،والرقيقة فلم يلمح أي دبلة ترتديها في يديها ..لكنه لا يعلم لِمَا فعل ذلك، ولِمَا أحس بالطمأنينة والسعادة ،عندما وجد أصابعها عارية ملساء ، طالما لم يعد هناك أي شيء يوحي بالخطوبة أو حتى الزواج ،وتساءل مع نفسه ُترى هل هذا هو الحب الذي يطلقون عليه الحب من أول نظرة ؟!!ذاك الحب الذي يقولون عنه في الأفلام ،والمسلسلات ،ويكتب عنه الأدباء في رواياتهم ، وقصصهم القصيرة ؟!!أم أنها نزوة عابرة ستمضي كسحابة صيفية ناصعة البياض ،غير ملبدة بالغيوم ؟!!،حاول أن يفتش عن طريقة ليخاطبها ،وأن يكسر حاجز الخجل ..الذي سيطر عليه لكن كعادته كلما حاول مخاطبة الأنثى لا يتمكن رغم جرأته في الحياة العملية ،كانت السيارة تنطلق بالطريق الصحراوي كالسهم فتسابق الريح بسرعتها المذعورة ،وكأنها في صراع مع عقارب الساعة التي لا تدور أبدا للوراء، فجأة شعر بالراحة ،والهدوء ..فكانت الغبطة تغمره كلما ازدادت السيارة في طي المسافات ،وعندما تداعب نسمات هواء باردة وجنتاه تنتثر قطرات ترطيبية كالندى فتعيد أنفاسه الحيرى!!، رغم موجة الحر الشديدة ،التي تصيبه كلما اخفض السائق من سرعة السيارة خاصة في الأماكن التي تقع تحت مراقبة الرادار أو نقاط التفتيش إلا انه.كم تمنى أن تواصل السيارة سيرها بلا توقف فيكفيه أن يسترق النظر إليها بين لحظة وأخرى ..،ويكفيه أن يلمح طيفها الخلاب .. تطلع عبر النافذة المفتوحة حيث كان يقعد ، وراح يحلق بخيالة العميق،ونظرته الثاقبة فأخذ يفكر فيها تارة ،ويفكر في الزحام الذي ينتظره تارة أخرى عندما يعود إلى بيته ،وفجأة قرر أن يدفن كل تلك المشاعر في جوانحه متسائلا ، وحتى لو تقدمت للزواج منها ،وقبلت ..فأين سنعيش ،وكيف نشعر بالحياة ،خاصة أن غرف بيت العائلة قد شُرحت جنباتها كما يُشرّح الأطباء الموتى فلم تعد تقبل القسمة ،ولا الجمع ، وراح يتذكر الصور المتوالية لحظة مراقبته اختفاء ملامح غول الزحام الهمجي الذي كان يطارده.. بشتى أشكاله واحتفاء البيوت التي كانت تتوارى شيئا فشيئا من بعيد ، تلك البيوت التي تكاد أن تتفتت ضغطا كالقنبلة الموقوتة ،فوق رؤوس أصحابها ، و التي تتراءى كجسد واحد متلاصق ،بلا حدود ولا فواصل أوجدران وكأنها جغرافية واحدة أسواق مفتوحة أومشتركة سواء في غرف المعيشة، أوغسيل الملابس أو المراحيض ،و طهي الطعام ..ناهيك عن غرف النوم التي تُختلس فيها العلاقات الزوجية الخاصة بالانسجام والالتحام ،وكأنها أمر غير مشروع أو محرم !! ضجيج في كل مكان ..هنا ورشة خراطة، وهناك ورشة حدادة ،لأول مرة يشعر باحتياجه للهروب من ضوضاء المدنية ،ومن مشاكلها المكتظة اللامتناهية إلى المساحات الشاسعة المترامية الأطراف ،و الخالية من الطير والشجر والبشر والجان .. لم يعد يرى أمامه سوى تلال رملية متناثرة ..تحتاج إلى من يلملم حبيباتها كم تمنى أن يجمعها فيبني قلاعا ،أوقصورا فخمة يتخذها ملاذا طيبا ليس له وحدة بل لكل الذين يتمردون على الزحام ويرفضون العيش بين جوانحه ،هو يعرف بثقافته أن من أثار سر الزحام في بلاده هو هيرودوت ذاك المؤرخ الإغريقي الشهير الذي عاش في القرن الخامس عشر قبل الميلاد حيث قال لما زار مصر :" إن مصر هبة النيل" ، كانت تلك أول دعوة مجانية للعيش على ضفتي نهر النيل العظيم ،ومنذ تلك اللحظة ،والناس تزداد اقترابا من ضفتي النهر لتستقر ملبية لمقولته الشهيرة ، بكل بساطة، ورغبة في العيش ،وكأن أرض مصر الفسيحة، لا تقبل العيش على أراضيها إلا بالقرب من مياه النهر !!، ولو توزع الناس على ضفاف النهر وفي الجبال والصحاري والوديان والسهول لما آلت إليه الأمور من انفجار سكاني كما هو الحال اليوم بمصر ،وتساءل إلى متى يستمر الزحف الديمغرافي الخطير الذي يبشر بكارثة حقيقية ،فلم يعد لأولئك الناس في العقود القريبة القادمة والتي قد تأثرت بمقولة مصر هبة النيل سوى أن تسكن قلب النهر عبر مراكب صخرية لا تطفوا أبدا !!
،حاول أن يكون أول من يبادر ،وأول من يخالف أن مصر ليست هبة النيل فحسب بل بعد الله سبحانه وتعالى ،ومن ثم بجهود أبنائها تكتمل الهبة ،لذلك قد اتخذ قرار الاجتياح للصحراء الواسعة ،وأن يكون هو من طلائع الشباب الذين يفتشون عن تعمير الصحراء، وبناء مصر بعيدا عن الزحام القاتل، وبعيدا عن كل الالتصاقات المهيجة فقال للسائق بعدما ناوله أجرته : من فضلك سوف أنزل هنا ،لم يكترث السائق به في أول الأمر ،وكأن الحديث ليس معه.. أي السائق ..كررها مرة أخرى من فضلك هنا ،حينها أوقف السائق سيارته بسرعة وكله استغراب ودهشة وتطلع إليه قائلا : كما تحب لكن ..هذه صحراء لا زرع فيها ولا ماء ،لم يرد على السائق وقبل أن ينزل التفت بعينية العميقتين إلى الفتاة مودعا إياها الغريب أنها لم تندهش لنزوله ، وكأنها توافقه الرأي بادلته النظرات بكل رقة وحنان هذه المرة،وأومأت برأسها على عجالة ،فترجم بفطنة ،وعبقرية أنها وكأنها تقول له سيكون لنا لقاء هنا مرة أخرى بعيدا عن ضفاف النهر وبعيدا عن الزحام !!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت