تأليف: عبد الحق شحادة.
كان الطقس بارداً جداً .. فهو من أيام ـ ما يطلق عليه عند عامة الناس منذ القدم ـ " الأربعينية " .. كنت متلهفاً لرؤية من يقبع خلف أسواره العالية . سمعت عن بعضهم منذ سنوات قبل اعتقالهم حيث أصبح يحكى حولهم الحكايات .. آنذاك كنت لا أزال صغيراً ، ولكن أمتلك إحساساً وطنياً متأججاً حتى حان الوقت " فتعمدت " مناضلاً وأسيراً معتقلاً .
تعرفت عليه منذ وطأت قدماي أرض ساحة " الفورة " كان في منتصف " الأربعينات " من العمر .. كان يبدو أكبر من ذلك بفعل الإصابة وظروف الأسر المملوءة بالقساوة والتي انعكست حتى على شعر رأسه فأصبح " نقيراً " .. كان يمشي متثاقلاً .. إنها الرصاصة الملعونة . كان قادماً من الأردن عبر وادي عربة برفقة زملاء له تجاوز عددهم الخمسة .. حضروا جميعاً إلى فلسطين لمقاتلة الجنود الصهاينة المحتلين وتحرير الوطن السليب .. فلم يكتمل حلمهم ...
أبو صنارة ـ هذه كنيته التي كنا نناديه بها _ قد تكون اسمه الحركي . لم أسأله عن سر هذا الاسم الذي يحمله ومن أطلقه عليه ؟؟
لم أنس هذا الاسم فقد طبع في دماغي ، وملامحه لا زالت شاخصة بحركاته أمامي ، حتى دعابته ومزاحه . كان يحمل دائماً قصافة أظافر وينادي في ساحة " الفورة "
_ مين عايز يقص " حوافره " ؟؟!
النداء يكاد أن يكون يومياً . أول ما رأيته كان يحمل وعاء ألمونيوم كبيراً كنا نطلق عليه اسم " قمقم " كان يستخدمه لتحضير وتوزيع الشاي في الساحة ، فهي مهمته ومع ذلك فهو لم يكن منفرداً .. كان له مساعدون ، ولكنه صاحب الامتياز . المساعدون مهمتهم توزيع الكاسات البلاستيكية قبل صب الشاي . هكذا كان أسلوب ونهج التعاون الجماعي ، هي نفسها وحدة الخلية والساحة والشعبة أو الرابطة . ولكن ديكتاتورية أبو صنارة كانت تتنافى مع المركزية الديمقراطية كأسلوب نضالي ، فهو لم يكن يسمح لأحد بالتدخل في شؤونه أو حتى انتقاد مذاق الشاي الذي يصنعه ، وإلا فإنه سيصب جام غضبه على الجميع .
ظروف السجن القاسية انعكست عليه كغيرة من المعتقلين ، ولولا إنجازات الحركة الأسيرة التي جعلت من المعتقلات مدارس في
السلوك والمعرفة والثقافة لكان سلوك الأسرى غير ذلك . إنه قانون الثورة الذي يتغلب على قانون الغاب .
" قمقم " الشاي مملكة " أبو صنارة " يعاقب من خلاله من يشاء ويثني على من يشاء . من يستطيع سحب هذا الوسام منه ؟؟ اللجنة الإعتقالية لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية أم اللجنة المركزية للحركة التي انتمى إليها " فتح " ؟ كلا .. مرة واحدة كانت هناك محاولة لإقصائه ولم تستمر طويلاً ، ويوم ذاك لجأ أبو صنارة إلى غرفته المطلة على ساحة النزهة مراقباً ما سيحصل وتساءل في قرارة نفسه ..
_ هل سيتمكن خليفته في مهمته ؟؟
_ كلا ..
لكن ماهي يا ترى المشاعر المسيطرة عليه بعد إقصائه .. وكيف يمكن تقييم حالته النفسية .. من يقف معه .. من ضده .. أخذ يجمع ويطرح .. ليحسب !!
يمر اليوم الأول صعباً وثقيلاً عليه .. كنت أراقب ذلك على سلوكه . فهو يصعب عليه مفارقة لازمته " القمقم " .
فجأة ينادي .. موجهاً حديثه إلى مسؤول الساحة " الاعتقالي
_ سمعت .. انكسرت الكأسات .
_ بسيطة يا أبا صنارة .. فداك .
يُنفٌخ أبو صنارة ، يضرب كفية ببعضهما.. يرفض احتساء الشاي رغبةً منه للفت انتباه المسؤول ليقوم برفع تقرير يوصي بإعادته .
اليوم الثاني يصرخ من زنزانته .. حرام عليكم الكأسات " كسرتوها ولعنتوا أبوها " .
أبو صنارة مظهر مألوف في الساحة وقد تعوٌد الجميع على رؤيته حاملاً لقمقمه . فالارتباط بينه وبين القمقم والساحة جدليٌُ وعضويٌُ . وهذا ما دفع اللجنة الاعتقالية إلى إعادة النظر في قرارها ليعود أبو صنارة منتصراً . وبكلماته المعهودة والمسموعة ينادي أبو صنارة " وصل ، كل واحد يصف كأسته " . مع ضربه بعصاه على " قمقم " الشاي .
هي نفسها دعابته التي كان يخاطب بها صديقه " أبو فريد " . يلعن أبوك يا سجن ، كم أنت غدار ، عطلت مسيرة الكثير وابتلعت الكثير وأخذت عقول الكثير .
نعم لقد تراجع عقله بعد أن كان عبقرياً ورغم ذلك فقد كان لا زال يحفظ " المعلقات السبع " عن ظهر قلب .
لم يكن وحده ممن تراجعت عقولهم ، هناك الكثير ، كانوا أذكياء ومثقفين ، شعلةً في العطاء والانتماء ، لكنه السجن والسجان .. لم يكن متزوجاً ولكن الجميع يناديه باسم والده .. أبو صنارة كان يناديه " فِر " عندما شاهدته أول مرة كان قد مر على اعتقاله أكـثر
من أحد عشر عاماً من حكمه " المؤبد " .
كان يتحدث بلهجة أهالي " الجورة " " قرية على شاطئ بحر عسقلان " كان لها مذاق خاص .. كنا نعتقد بأن هناك عداوةً بين أبو فريد والجلوس في الساحة ، لم نكن نراه جالساً أبداً ، بل ماشياً حاملاً مسبحته الطويلة ، حتى أنه كان يشرب الشاي ماشياً .. وبعد أن أصبح فجأه مدخناً مولعاً بدأنا نتعوٌد عليه وهو يسير وفي فمه سيجارتان في آن واحد ، حتى أصبح يحاكي " عنتر " في طريقة التدخين . وعنتر هذا كان أشبه بسكان القبور ويعرفه الكثير من سكان ساحل مدينة غزة ، ومن لم يعرفه لابد أنه سمع به ، ففي فترة الستينات كان يسكن القوارب الراسية على شاطئ بحر غزة ، يفترشها ليلاً ملتحفاً السماء غطاءً .
لم يكن له أهل ولا أصدقاء ، قد يكون افترق عن أهله خلال النزوح من فلسطين عام 1948م ، كان في العقد الخامس من عمره ، يدخن السجائر والسيجار " والسبريس " . ولسنوات عديدة بقيت صورته وهو بملابسة الرثة وسيجارته بين أصابعه معلقة في برواز كبير داخل زجاج العرض في أحد استوديوهات التصوير وكانت مثيرة للفضول .
_ " أصب لك شاي يا فِر " ؟؟
يناديه أبو صناره .
_ " فك عني يا أبا صنارة .. مش رايق لك "!!
يدور مرة ومرتين حول الساحة ، ثم يعود إلى أبى صنارة بعد أن يكون قد أحضر معه كأساً فارغاً .
_ " طيب عبى هالكأسه يا أبا صنارة وهات لك سيكارة " .
حب الطيور وإطعامها كان شائعاً في السجن ، وكغيره أراد أبو صنارة أن يخص نفسه بعصفور " دوري " فلم يكن يتواجد بين أسوار السجن سواه . وكان إحضار هذا الطائر يتم من خلال الإخوة العاملين في كب نفايات الغرف داخل الأسوار ..
المعتقلون داخل السجن سخروا الطير والحيوان في خدمه مهامهم الخاصة ، كهدهد سليمان إلى بلقيس . فهم لم يعدموا الحيلة والوسيلة .
أصبح لأبي صنارة عصفورٌ .. حديث الجميع .. فهو يطعمه ويلاعبه حتى أنه يتحدث معه ليتسلى وإياه . ولكن حسد الحاسدين اشتعل في صدر زميله في الغرفة " قفطان " .. الغيرة أصابته فأراد الإنتقام ؟!
وبالمناسبة " قفطان " هذا ليس فلسطينياً ، بل وطني التحق بصفوف الثورة الفلسطينية من خلال انتمائه لحركة فتح بعد هزيمة حزيران عام 1967م ، كغيرة من أصحاب الحس الوطني ، وقد أبى إلاٌ أن يشارك إخوانه المناضلين في مقاتلة الصهاينة المغتصبين لعروس عروبته . فسقط أسيراً بعد أن فقد ثلاثة من أصابع كفه اليمنى .. ولم تثنه إصابته عن إبراز مواهبه .. لم ييأس فقد أخذ يجعل من قطع
الصخور الصغيرة التي إقتلعها من ساحة السجن أشكالاً جميلة جسد فيها معاناة الأسرى وقضيتهم .
لم يكن يدرك أبو صنارة ما كان يخبئه قفطان لعصفوره ، ولم يحسب لذلك عندما خرج كعادته صباحاً إلى ساحة السجن لتحضير الشاي ، حيث استغل قفطان هذه الفرصه وعمد إلى إغلاق مؤخرة العصفور بعود صغير غير ظاهر للعيان فأصبح العصفور لا يأكل ولا يلعب ولا يزقزق كعادته ، بدا شاحباً وضاماً لجناحية كأنه يريد أن يشكو فينكمش . ثم يهوى من حالق .
لم يدرك أبو صنارة ما يخفيه القدر لعصفورة ، كانت الفاجعة أمامه ، تفحصه ملياً ، ثم تساءل بانفعال ..
ـ يا ناس .. يا عالم .. إيش إللي صار للعصفور ؟؟
إحساس أبو صنارة لم يخدعه ، إن في الأمر مكيدة !! عندئذٍ صب جام غضبه وشتائمه ضد قفطان .
إرادة أبو صنارة كانت قوية وعزيمته صلبه بالرغم من شدة أوجاعه كغيره من الأسرى . ولم تثنة هذه الأوجاع عن مشاركة زملائه في خوض إضرابات مفتوحة عن الطعام ضد إدارة سجن عسقلان ومديرية السجون بهدف تحسين أوضاعهم الحياتية . الإضرابات لم تكن سياسية كما كانت تصفها حكومة الاحتلال الإسرائيلي دائماً .. كانت مطلبيه بحته .
أبو صنارة عند اعتقاله كان على يقين بحتمية تحريره من السجن مهما طال الزمن أو قصر ، مادام يقف خلفه شعب ومقاومة ، وقد صدق ظنه ، فتحرر في صفقة تبادل الأسرى مع الاحتلال الإسرائيلي التي حصلت بتاريخ 20/5/1985م . وقد أبى قبل مغادرته السجن إلاُ أن تبقى رمزيته شاهدةً عليه كأنه يريد أن يقول لمن سيدخل بعده بأن أبو صنارة كان هنا ومر من هنا .
فهو حكاية .. ولطاقيته الصوفيه التي اعتمرها غطاءً لرأسه طوال ستة عشر عاماً ، هي عمر سنوات اعتقاله حكاية أخرى .. حيث بقيت معلقه على ارتفاع شاهق فوق أعلى الشجرة الوحيدة في السجن دون أن تتأثر بعوامل الطبيعة أو الزمن ولا ممارسات السجن والسجان . بقيت صامدة .. صامدة .. كتراث أجدادنا في وطننا لتحكي الحكاية للتاريخ من جديد بأن شعباً مر من هنا أو بقي هناك في فلسطين .
عبد الحق شحادة
أمين سرحركة فتح بإقليم غرب غزة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت