كيف ومتى نما الشعور الطائفي والمذهبي بالمنطقة

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج


تعيش الأجيال العربية اليوم حالة من التوهان والحيرة، وعدم القدرة على تفسير ما يجري من صراعات بينية عربية وإقليمية، وحالة من فقدان الوعي وعدم القدرة على اتخاذ المواقف مما يجري نتيجة لما يحدث بمسرح اللامعقول أمام ناظريهم وهم لا يصدقون ما يحدث فيفقدون الثقة بأنفسهم وبهويتهم وبتاريخهم. من هذا المنطلق لا بد من سرد حقائق تاريخية أدت بنا الى ما نحن فيه اليوم من حالة عدم استقرار سياسي وأمني وتخلف فكري يؤرقنا ويقلقنا جميعاً.
في البداية لا بد من التنويه عن حقيقة دامغة وهي "إن الصراع الدائر اليوم في المنطقة هو صراع قوميات خفي بعناوين دينية طائفية ظاهرية" ومن يظن غير ذلك فهو مضلل أو مخطيء في ظنه. وهو إمتداد لصراع قديم في عدة أوجه، بدأ بعناوين قبلية في عصر الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومر بعناوين عرقية وانتهى اليوم بعناوين طائفية. الدين الإسلامي بالذات ممثلاً بالقرآن الكريم والذي لم يتعرض للتحريف والتأويل والتشكيك وما صح من السيرة النبوية الشريفة وتوافق مع المنطق والعلم والواقع لا خلاف عليه، ولكن الخلاف سياسي قومي محض. وجر معه المضللين والمنتفعين والإنتهازيين والجهلة والعامة البسيطة في القوميات المتصارعة على الأدوار. واختلط الحابل بالنابل وبدت وكأنها معركة أو طوشة فوضوية لا تستطيع فيها تحديد الخصوم من الحجازين والكل يضرب في الكل. ففي منطقتنا المتنازع عليها عالمياً ثلاثة قوميات رئيسية كلها تدين بالإسلام الجلي الواضح والذي لا يختلف فيه إثنان مسلمان، وأن تعدد المذاهب فيه للتيسير وليس للتعسير.القومية العربية المطعونة بخاصرتها والمترنحة، والقومية التركية الناهضة، والقومية الفارسية المستنفرة والمستشرية. والكل يبحث عن دور الشرطي في المنطقة وعالمنا العربي مسرح لهذا الصراع. هذا عدا عن تحالف القوى المتحكمة في العالم مع الصهيونية العالمية في الكيان المصطنع في فلسطين والذي يملك القوة المادية والعسكرية المتفوقة على غيرها. ويحرك أقوياء العالم قبان الميزان في المنطقة لكي يصب دوماً في اتجاه ترجيح كفة مصالحهم ويستخدمون في هذا المنحى الكيان الصهيوني الوظيفي ويستغلونه أحسن استغلال.وما دام هذا الكيان المصطنع يقوم بهذا الدور الوظيفي سيظل يحظى بدعم مستخدميه ولن يرضخ لمتطلبات السلام التي نبحث عنها.
كان الشعور القومي العربي مريضاً وليس ميتاً في نفس المواطن العربي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وما قبلها وبعدها، وما نتج عن تلك الحرب من إتفاقية سايكس بيكو بين وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا التي قسمت العالم العربيعمودياً-جغرافياً وعرقياً قبلياً-ديمغرافياً، إنطلاقاً من القاعدة "فرّق تسد"، وجثمت الإمبريالية على صدور هذه الأوطان العربية الصنيعة التي نتجت عن إنقسامات وبائية سرطانية. حيث كان المواطن العربي مهموماً بالهجمة الإستعمارية ومشغولاً بمقاومة الإستعمار وبالتحرر والإستقلال، وفي نفس الوقت كان المواطن العربي مضمراً في نفسه الشعور القومي العربي بعد الخلاص من ربقة الإمبريالية. وكان التخطيط البريطاني الخبيث بمثابة ردة الفعل القوية والمعاكسة للمشاعر العربية الوطنية، حيث أضمر في نفسه خلاص أوروبا من شرور الصهاينة والقذف بهم وبقاذوراتهم نحو المنطقة العربية الغنية بمواردها، وبذلك زرع في خاصرة الوطن العربي الكبير الكيان الصيوني في فلسطين التي تعتبر همزة الوصل بين عرب آسيا وأفريقيا ليبقي المنطقة في حالة غليان وعدم إستقرار. سيما وأن فلسطين تعتبر أراضٍ مقدسة للديانات السماوية الثلاثة، مما يؤجج المشاعر العقائدية في المنطقة وذلك من أجل السيطرة على نواة الأرض المقدسة (القدس) وما حولها من مدارات لا تخلو من القداسة.
وظل الشعور القومي العربي كامناً في النفوس لا يستطيع أحد التعبير عنه صراحة، وكانت هنالك محاولات خجولة لإحيائه والتعبير عنه والسعي له ، ولكنها ظلت هابطة بسقوف لا ترقى الى الطموح أو وئدت في مهدها، إلى أن نجحت حركة الضباط الأحرار في يوليو عام 1952م، وانطلقت الثورة المصرية الحديثة بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ووجدت الأمة ضالتها، والتفت حول الثورة المصرية وزعيمها من محيطها الى خليجها، وبدأ المواطن العربي بالجهر بشعوره القومي، والتعبير عنه بأريحية وكرامة، وامتدت الثورة المصرية الى كل الأوطان العربية الباحثة عن إستقلالها من الإستعمار، وكانت الثورة المصرية الفتية السند لهذه الثورات العربية، ومدت يد المساعدة إعلامياً وتوعوياً ولوجستياً لكل حركات التحرر في الأوطان العربية، وفي أفريقيا، وسطع نجمها ونجم قائدها عالمياً بالمشاركة بتأسيس حركة عدم الإنحياز وكانت مصر ركنا فاعلاً من أركان هذه الحركة لتعمل على خلق مساحة توازن بين القطبين الرئيسيين المتنافرين (الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفياتي).
لم يرق هذا الأمر لقوى الإمبريالية، فعمدت بكل ما تملك من طاقات على وأد هذا الشعور القومي العربي المتنامي وقصم ظهره، والذي يشكل خطراً على مصالحها بالمنطقة. وفي تلك الفترة كان الكيان الصهيوني يمر بمأزق إقتصادي حرج، وبدأت الهجرة الطاردة لليهود من فلسطين، وتهاوت معنويات الإسرائليين وساد الكيان شعور بالإحباط من هذا المد العربي المتنامي من حولهم، فكان لا بد من عمل صهيوني وإمبريالي للتصدي لهذا المارد العربي، وإسرائيل بطبيعتها تلجؤ دوما لحل مآزقها بالحروب، وذلك لإشعار مواطنيها القلقين بالأمن، وإيقاف حركة الهجرة الطاردة، وكان ذلك متناغماً مع الأهداف الإمبريالية في وقف بل وتدمير المشاعر القومية العربية في نفس المواطن العربي، فتلاقت المصالح الصهيونية والإمبريالية في ضرب المشروع القومي العربي الوحدوي، فكانت حرب عام 1967م وكانت الهزيمة العسكرية القاسية، فحظيت اسرائيل بثقة المستعمرين الجدد للمنطقة (الولايات المتحدة الأمريكية) والذين استلموها بالوراثة من الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية.وبذلك وجهت الإمبريالية والصهيونية ضربة قوية موجعة للقومية العربية ودعاتها، حيث ألصقت بهم الهزيمة لتكون سبباً في التخلي الشعبي عن هذا الشعور القومي العربي الفطري، ولكن الضربة لم تكن قاضية، فنهض باعث القومية العربية من كبوته، والتفت حوله الأمة من جديد، وراح يعيد البناء ويصحح الأخطاء، ولكن لم تكن أعين الأعداء نائمة، وامتدت يد الغدر لباعث القومية العربية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وقضى وما زال الغموض يلف وفاته المفاجئة والتي كانت بمثابة الفاجعة للأمة.
ولم تخل الأمة من أبنائها الأبرار وقادتها العظام، ومن هؤلاء العظام الرئيس الجزائري الراحل والذي ما زال الغموض يلف رحيله (الرئيس هواري بو مدين). الذي قاد في الجزائر ثورة صناعية وزراعية وعلمية وثقافية عروبية، والذي استلم راية القومية العربية من الرئيس جمال عبد الناصر، وما يثير الشك حول وفاته الغامضة أعمال هذا الرئيس الراحل العظيمة على مستوى الوطن الجزائري كما أسلفت، وعلى مستوى الوطن العربي الكبير
• أوعز للإتحاد السوفياتي بتزويد مصر بكل ما تطلب من سلاح تحضيراً لإزالة آثار العدوان الإسرائيلي عام 1967م، وتعهد لهم بتسديد فواتير هذه الأسلجة. وتحملت الجزائر نفقات الأسلحة التي أرسلت الى مصر واستخدمت في حرب التحرير عام 1973م والتي أبلى فيها الجيش المصري بلاء حسناً وتمت سرقة إنتصاره بعد ذلك بثمن سياسي لا يتناسب مع حجم النصر. وعلى إثر ذلك خرجت مصر العمود الفقري للأمة من حلبة الصراع العربي الإسرائيلي كلاعب مشارك بالصراع الى لاعب محايد متفرج لا يملك الا هتافات التشجيع ووسيط لا يملك قوة ضغط لحسم الصراع بإتفاق سلام مشرف.
• كانت عين الرئيس الراحل هواري بومدين على الجبهة الشرقية المشتعلة للوطن العربي، وبالأخص على بوابتها الكبرى جمهورية العراق نقطة القوة الرئيسة في الشرق العربي، حيث كانت الجبهة العراقية مشتعلة في حرب باردة مع الأكراد في شمال العراق،وكان يذكيها ويدعمها شاه ايران الراحل (رضا بهلوي) الحليف الشريك للكيان الصهيوني، وذلك بايعاز من الولايات المتحدة حليفته في ذلك الوقت، وكان الشاه يمد الأكراد بالمال والسلاح، وذلك على إثر خلافات معلنة بخصوص الحدود والسيادة على شط العرب. وعلى وقع صراعات قومية خفية على الجغرافية العربية. وتنبه بومدين لخطورة الموقف في الشرق العربي، فسعى الى تهدئة الجبهة العراقية الإيرانية وتبريدها خوفاً من فتح بوابة الجبهة العربية الشرقية للطامعين على مصراعيها،(وهو ما يحصل هذه الأيام وكأنه كان يتنبؤ بذلك)، والذي بدوره سوف يضعف الجهد العربي في الصراع الأساسي للأمة مع عدوها الكيان الصهيوني، وبجهودة الشخصية ورعايته وحكنته اقنع الجانبين المتخاصمين (العراق وايران) بالتوصل الى إتفاقية الجزائر عام 1975م والتي وقعها في ذلك الوقت نائب الرئيس العراقي صدام حسين يرحمه الله وشاه ايران في الجزائر.
لم يرق ذلك للولايات المتحدة الأمريكية والغرب الآوروبي والكيان الصهيوني، فهذا الهدوء على الجبهة العراقية الإيرانية سوف يؤدي الى تنمية ونهضة في كل مناحي الحياة كان يقودها صدام حسين في العراق، ونهضة في الجزائر يقودها بومدين، وبالنتيجة ظهور نمور عربية في المنطقة.وربما يُعاد بعث القومية العربية من جديد بعد كبوتها وإخمادها وتغييب داعيتها وباعثها، فيخرب عليهم مصالحهم وسيطرتهم على خيرات المنطقة. فتحرك هنري كيسنجر الأمريكي اليهودي والذي كان وزيراً للخارجية الأمريكية آنذاك، ووضع خطة عمل تعيد الصراع العراقي الإيراني من جديد، وبأشد مما كان عليه سابقاً، وعلى أساس عقائدي طائفي معلن وقومي خفي مبطن، وذلك ضمن ما كان يسمى بسياسة الإحتواء المزدوج لبلدين غنيين بالموارد والثروات وبالقوى البشرية القادرة على قيادة تنمية وقيام نهضة تجعل منهما سداً منيعاً ضد الهيمنة والسيطرة على مقدرات المنطقة سيما وهما يدينان بديانة واحدة.ويختلفان عقائدياً مع الكيان الصهيوني في فلسطين.
فكانت خطته تقوم على إحداث صراعات بينية وصراعات جانبية تغطي على الصراع الأساسي مع الكيان الصيوني وتخدم المصالح الأمريكية والغربية بابتزاز الكيانات بأمنها واستقرارها وتنميتها. وكما أن هنالك مذاهب في الديانة المسيحية واليهودية، هنالك مذاهب في الديانة الإسلامية، فكانت فكرته تقوم على الفرز العقائدي والمذهبي في المنطقة التي تدين معظمها بديانة واحدة. ليطبق التجربة الغربية التي غرقت بحروب وصراعات أودت بحياة الملايين منهم في صراعات مذهبية وطائفية.
فكان قرار الولايات المتحدة والغرب الآوروبي بخلع الحليف المخلص لهم من عرشه، فتم خلع شاه ايران لأنه تجرأ على عقد إتفاقية سلام مع العراق مما يخالف التوجهات الأمريكية، والذي لم يجد في ايران مكاناً يدفن فيه بعد وفاته، وجيء بالإمام الخميني من فرنسا تحت يافطة الثورة الإسلامية وبالشعارات الدينية ليحكم ايران. وهلل العالم العربي للثورة الإيرانية الإسلامية في بواكيرها، وكان المرحوم ياسر عرفات أول من وصل من الزعماء ليهنيء قادة الثورة الإسلامية، سيما وقد ساهم بتدريب القوات ال؟إيرانية التي كانت معارضة لشاه ايران وداعمة لثورة الخميني، وخاطر بحياته للوصول الى ايران، ولما اجتمع مع الإمام الخميني الذي يجيد اللغة العربية تحدثاً وكتابة، أصر على التحدث مع عرفات باللغة الفارسية. ورفض التحدث اليه بالعربية. ففهم عرفات بذكائه المعهود أنها ثورة قومية بشعارات دينية، ونفض يديه من عوائد قد تعود عليه في صراعه مع عدوه الذي يحتل أرضه.
وبدأ فرز المنطقة فرزاً عقائدياً ومذهبياً وطائفياً منذ قدوم الخميني وثورته، ومنذ ذلك التاريخ لم تهدأ المنطقة من الصراعات، وأدى ذلك الى ضياع العراق، وطمس هويته العربية في صراع مرير مغلف بصراعات عقائدية، وفي لبه وبواطنه الطبقات القومية العرقية المتعصبية. وها هي سوريا تغرق في صراعات مقتدية وسائرة على طريق مصير العراق، وبدت المنطقة كحروف بلا نقط، لا تفرق فيها بين حروف الحاء من الجيم من الخاء. وانساق المُضلَلون والإنتهازيون المنتفعون من الحروب والعامة من البسطاء الذين يفتقدون للوعي الفكري التنويري مع هذه الموجة العقائدية المنحرفة، وانجرفوا في تيارها. فضاعت أوطان عربية، وسرقت الأراضي العربية في وضح النهار، ونهبت الخيرات العربية بإبتزاز العربي في أمنه وقوته وحياته ، وذلك بخلق عداوات بينية وعدوات إقليمية وعرقية وطائفية. والخاسر في تلك الصراعات هم المختصمون في جدل عقائدي ومذهبي وطائفي عقيم ومدمر، والرابح الوحيد هم أعداء العرب وأعداء ايران وأعداء تركيا وهم الصهاينة الذين زرعوا في المنطقة كنبتة غريبة سامة وقاتلة. إذ يفترض أن تسود العلاقات المميزة والحميمية بين العرب والأتراك والإيرانيين على قاعدة العقيدة الواحدة، حيث ساهمت هذه القوميات الثلاث تحت مظلة العقيدة الواحدة في نهضة العالم، ولكن ما يحدث اليوم هو ضد المنطق والعقل والتاريخ والعقيدة السمحة. ربما يكون في ذلك أجوبة لكل شاب وشابة يتساءلون عما يجوي ولماذا ومنذ متى وكيف حصل ذلك. الشعور القومي في الإنسان فطرة، ومن لا يشعر بقوميته لا أصل له، والدين للناس كافة وأبوابه مفتوحة لكل قاصد بنية سليمة خالصة. ولا تناقض بين القومية والعقيدة، القومية والوطنية مظلة كبرى تجتمع تحتها العقائد على كلمة سواء تصب للصالح العام.



جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت