إشكالية تعدد المرجعيات الوطنية..

بقلم: محمد السودي


يصعب التكهّن من أين ومتى يبدأ إصلاح حال الحركة الوطنية الفلسطينية بكافة مكوّناتها وترتيب البيت الداخلي كي تستجمع قواها لدرء المخاطر التي بدأت تقوّض أسس المشروع الوطني حيث أضحى قاب قوسين أو أدنى من شفير الهاوية دون أن يلتفت أحد بالقدرالكافي إلى تداعياته الخطيرة ، إذا كان الإنقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي عنوان مرحلة النكوص في الأداء الوطني العام الذي أشرف على نهاية عامه السادس وهذا صحيح بكل المقاييس بكونه شكّل ذروة الأزمة السياسية الفلسطينية المتفاقمة منذ وقت طويل كانت محصّلة تراكمات نوعية أدّت إلى النتائج الكارثية غير المسبوقة على مستوى العلاقات الوطنية الداخلية ، فهل يمكن الحديث عن تطبيق اتفاق المصالحة المولود قيصرياً بعد مخاضٍ عسير ولا زال في حاضنة الإنعاش تمليه ضرورات الوقت والمراوغة والفرصة الملائمة بالرغم من توقيع الأطر القيادية الفلسطينية على اتفاق المصالحة الوطنية برعاية مصرية ثم تلاه اعلان الدوحة التنفيذي ولم يزل أسير التأجيل مرة تلو الأخرى؟ يدرك العقلاء أن كل يومٍ يمضي دون استعادة الشعب الفلسطيني وحدته الوطنية يقابله تكريس لواقع الإنفصال ليس فقط من الناحية النظرية ،إنما هنالك حقائق تفرض على أرض الواقع تتغير فيها أنماط الحياةالإجتماعية والسياسيةوالثقافيةوالتعليمية الغريبة عن عادات وتقاليدالمجتمع الفلسطيني لها مرجعياتها الأيديولوجية المستقلة ، تعززّها أيضاً عوامل إقليمية ودولية تصبّ خواتيمها النهائية في مستنقع المشروع التفتيتي للمنطقة العربية التي ستبقى خارج دوائر الفعل الدولي المؤثر عقود طويلة، بينما تظهر قوىً إقليمية جديدة تملأ الفراغ العربي تتقاطع مصالحها مع المصالح الأمريكية الصهيونية والدول الغربية التي تدور في فلكهما .
لقد أخفقت القوى الفلسطينية في مسار عملها الطويل أزاء مأسسة المرجعيات الوطنية ذات العلاقة بالقضايا الجوهرية المكمّلة للعملية الكفاحية ولم تستطع حتى يومنا هذا تصويب الخلل الذي أصبح مزمناً حيث تعددت مرجعيات المنظمات والهيئات المهنية والنقابية والشعبية في مقدمتها الحركة العمالية المنقسمة على نفسها بالرغم من كل المحاولات المتعددة لتوحيدها خاصة بعد انشاء السلطة الوطنية ولايعلم أحد أين يكمن سر القوة التي تقف حائلاً بين وحدة الحركة العمالية الفلسطينية وأخذ دورها الريادي في الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة الأكثرمعاناة واضطهاداً مركبّاً وفقرا من شرائح المجتمع الفلسطيني حيث ذهب العديد شهداء لقمة العيش والتمييز العنصري وطغيان الإحتلال وقطعان مستوطنيه خلال رحلة العذاب على حواجز الذّل والهوان ، ويكفي أن نسترجع ذكرى احتفال الأول من أيار عيد العمال العالمي حتى يكتشف المرء مدى ضحالة المشاركة العمالية بعيدهم السنوي الذي اقتصرعلى قلةٍ قليلة من قادة الحركة النقابية الرسميين وبعض المشاركين بينما كان العمال يبحثون عما يسدّ رمق أطفالهم من جوع غير أبهين بهذه المناسبة الخطابية ،أما الحديث عن نضالات الحركة الأسيرة التي تستحقّ التقدير والإجلال هؤلاء الذين أثبتوا صدق انتمائهم للوطنية الفلسطينية دون حسابات شخصية ويقفون في مقدمة الركب يسطّرون الملاحم البطولية في وجه الطغاة من خلال نضالهم الدؤوب من أجل حرية شعبهم وانتزاع حقوقهم كاملة ومعاملتهم كأسرى حرب كما نصّت عليه اتفاقيات جنيف ذات الصلة ، لكن المؤسسات المتعدّدة للحركة الأسيرة تثير المرارة في النفوس وتعكس واقعاً لايختلف في حقيقة الأمر عن الواقع المؤلم الذي وصلت إليه الأوضاع المأزومة على غير صعيد ، يتجلى ذلك بوضوح بحالة العزوف الجماهيري عن المشاركة بفعاليات الأسرى المتعددة الإتجاهات حتى وصل التنافس غير المبرر بين هذه المسميات إلى مقاطعة بعضها مايعني أن تعددّ الجهات ذات العلاقة بالحركة الأسيرة تستنزف الجهد والأمكانيات دون أن يكون لها تأثير فعلي ضاغط يستطيع تقديم قضية الأسرى أمام المؤسسات والهيئات الدولية والعربية بما يليق بمكانتها .
كل شيء يمكن أن يكون خاضع لاعتبارات السياسة والمصالح في إطار العلاقات الوطنية لذلك شكلت لغة الحوار بين مختلف الأطياف الفلسطينية السبيل الوحيد للتغلب على الأزمات الناشئة رغم الإستثناء الوحيد المؤلم الذي أدى إلى استخدام السلاح بدل الحوارفي قطاع غزة وقد يتطلب المزيد من الجهد والوقت والصبر والحكمة ، إنما يحدث ذلك وليس هناك ترف الخيارات طالما أن التهديد الوجودي من قبل الإحتلال سيف مسلّط على رقاب الجميع فما بال أولي الأمر حين ينظرون إلى مدينة القدس بوابة السماء،وعروسة المدن العربية تنهشها أنياب الجرافات ويعزلها عن محيطها جدران الفصل العنصري وتصادر الأراضي وتتغير ملامح المدينة الديمغرافي والجغرافي وتهدم البيوت حيث تتلاشى إمكانية تجسيد الدولة الفلسطينية العتيدة دون عاصمتها الأبدية ،في حين تطوى قرارات القمم العربية الخاصة بإنشاء صندوق القدس في ثنايا الأدراج وتقديم الدعم لصمود المواطنين المقدسيين على أرضهم في مواجهة عربدة مليشيا قطعان المستوطنين الذين يدنسّون المقدسات ويقتحمون حرمة المسجد الأقصى أمام مرأى العالم العربي والإسلامي الذي لم يحرك ساكناً عدا بعض البيانات المستنكرة الخجولة ،بينما يتبرع بعض العرب بما لايملكون حق تبادل أراضي فلسطينية عربون استخذاء لأمريكا وحليفتها الإستراتيجية، أن المخططات الإحتلالية تسعى من وراء إقامة الطقوس الدينية في باحات الأقصى جس النبض وبالون إختبار لقياس ردود الأفعال لأجل تقسيم المسجد الأقصى على غرار ماحصل للحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل ، أمام كل ذلك تعاني القدس من الإجراءات الإحتلالية العنصرية وتنتشرالمخدرات ويفكك النسيج الإجتماعي بوسائل شتى ويفرض سياسات تعليمية وفق مناهج متعددة ويحرم الفلسطيني من امكانية التوسع العمراني الضروري ، ولم تستطع المرجعيات الوطنية المتعددة في القدس من رسم سياسة موحدة في مواجهة الخطر المحدق بالمدينة المقدسة وتوحيد كافة الجهود لوقف العدوان على المقدسيين.
يبقى القول تجاه الأزمة العامة المستفحلة أن المسؤولية الوطنية تقتضي المراجعة للأداء الوطني العام ثم المعالجة لتصويب المسار السياسي بعد أن فشلت العملية السياسية على مدى عشرين عاماً من المفاوضات العقيمة ، كما تقتضي الضرورة خطوات جريئة لإنهاء الإنقسام وليس البحث عن سبل لإدارة الأزمة أو المحاصصة تبقي الحال على ماهوعلية وفق السياقات السائدة ، أما توحيد المرجعيات وتجديد المؤسسات الوطنية فهي على قدر كبير من الأهمية لانجاز المشروع الوطني التحرري ، إن مجلس وطني جديد يتم تشكيله وفق معاييرمتفق عليها لمدة عام أو عامين بات ملحاً لتجديد وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة هيكلتها ورسم السياسات المستقبلية الفلسطينية تماشياً مع متطلبات العصر ، إذ لايمكن إجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني في الشتات في ظل الظروف المتغيرة التي تشهدها المنطقة العربية بالإضافة لاعتبارات أخرى .....
كاتب سياسي

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت