((( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ))) جريمة الكذب من الكبائر المحرمة

بقلم: تيسير التميمي

هذا هو الإسلام
((( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ))) جريمة الكذب من الكبائر المحرمة

اللسان نعمة من نعم الله العظيمة على الإنسان ، صغير حجمه عظيم طاعته أو جرمه ، فباللسان يستبين الكفر من الإيمان ، ولهذا كان المرء بأصغريه : قلبه ولسانه . فاللسان هو الناطق بكلمة الحق والتوحيد ، وهو الذاكر المسبح لله تعالى بالحمد والثناء ، فينبغي للمؤمن أن يضع لسانه وراء قلبه ؛ فإذا أراد أن يتكلم بشيء تعقله وتدبره أولا وفكر فيه ثم أمضاه لسانه ، وألا يكون كالمنافق أو الجاهل يجعل لسانه أمام قلبه فإذا هم بشيء أمضاه دون أن يفكر أو يتدبر ويعقل .
ولهذه الأهمية الكبرى للسان فكل ما يقوله المرء محسوب له أو عليه ، وكل كلمة تصدر عنه مرصودة في سجل أعماله ، قال تعالى { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ق 18 . وقال صلى الله عليه وسلم { إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه ، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه } رواه الترمذي ، فحري بالمؤمن أن يسائل نفسه ويحاسبها قبل أن يتحدث ، فإن كان خيراً تكلم وإلا سكت ، والسكوت في هذه الحالة عبادة يؤجر عليها ، قال صلى الله عليه وسلم { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت } رواه البخاري . لأن من كثر كلامه كثر سقطه ، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به . فليعلم المرء أن كلامه أسير لديه ما لم يتلفظ به ؛ فإذا خرج من فمه صار هو أسيراً له وعبداً .
وبالمقابل فإن ضبط المؤمن للسانه ومحافظته عليه وسيلة لضمان الجنة بإذن الله سبحانه وتعالى ، قال صلى الله عليه وسلم { من يضمن لي ما بين لَحْيَيْه (أي لسانه) وما بين رجليه أضمن له الجنة } رواه البخاري .
كثير من الأمراض التي تصيب العلاقات الاجتماعية هي من كسب اللسان وآفاته التي تفتقر إلى العلاج ، كالنميمة والغيبة والسب والقذف والافتراء والتشهير والذم والتدليس والكذب وقول الزور واللعن ، فإذا سمح الإنسان للسانه أن يَلِغَ في هذه الأوحال فإنها مُهْلِكَتُهُ لا محالة ، ذلك أن اللسان ترجمان القلب وسبب استقامته ، قال صلى الله عليه وسلم (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ) رواه أحمد .
والنميمة هي السعي بالفتنة والإفساد بين الناس الذي يؤدي إلى النزاعات والقطيعة بينهم ، وهي مختلفة تماماً عن الغيبة ، فالغيبة أن تذكر أخاك بما يكره في غيابه لو وصله ما قلت عنه ، هذا إذا كان ذلك فيه ، فإن لم يكن فيه فهو البهتان والافتراء ، وأما القذف فهو الخوض في عرض أخيك بسوء مهما كانت صورته .
والتدليس على الآخرين وإيهامهم بالصدق هو من الخيانة والكذب ، قال صلى الله عليه وسلم { كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك به مصدق وأنت به كاذب } رواه البخاري .
وإن كان الكذب من آفات اللسان فالصدق سمة أساسية في شخصية المؤمن ، فهو صادق مع نفسه ومع ربه ومع الناس لأن الكذب يتنافى مع الإيمان ، سئل صلى الله عليه وسلم { أيكون المؤمن جباناً ؟ فقال نعم ، فقيل له أيكون المؤمن بخيلاً ؟ فقال نعم ، فقيل له أيكون المؤمن كذاباً ؟ فقال لا } حديث مرسل رواه أحمد ، وحقيقة الصدق أنه التزام الحق في القول والفعل ، وهو خلق إسلامي عظيم لأنه من أهم أسس تربية الأفراد وبناء الثقة وتحقيق القيم العليا فيما بين الناس بحيث لا يكون لديهم وزن لغير الحقائق ، أما الكذب فهو مرض يصيب القلب والنفس لما يقوم عليه من الخديعة والتضليل للآخرين وتفلت من قواعد الحق والخير ، ومخالفة للحقيقة والواقع في القول والفعل والفكر والعزيمة والمشاعر والنوايا .
لذا فقد حارب ديننا الحنيف الكذب وأهله ، وبين لنا سبحانه أن هؤلاء ـ إن لم يتوبوا ـ ليس لهم من هداية الله نصيب وأن مصيرهم الهلاك ، قال تعالى { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } غافر 28 , فعاقبة الكاذب نار جهنم ، قال صلى الله عليه وسلم { عليكم بالصدق فإنّ الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً } رواه البخاري .
والناس في الحقيقة ـ قديماً وحديثاً ـ يمقتون الكذب ويحتقرون الكذاب لأنهم لا يجدون منه إلا الخيانة والتلاعب والتزوير والغش ، لذا فإنهم لا يبحثون في حياتهم وتعاملاتهم اليومية كلها إلا عن الصادق ، فالكذاب الذي يلطخ لسانه برجس الحديث وخبيث الكلمات فلابد أن تبدو سريرته وينكشف أمره فيزدريه قومه وينفضوا من حوله .
ونتعلم من سلفنا الصالح في تاريخهم الطويل صدقهم في كافة ميادين الحياة : في تعاملهم مع الله سبحانه وتعالى ، وفي تعاملهم مع بعضهم بل حتى في تعاملهم مع عدوهم في الحرب والسلم ، أما في الصدق مع الله فإننا نتذكر قصة رجلٍ من الأعراب { جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه ثم قال أهاجر معك ، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ، فلما كانت غزوةٌ غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبياً فقسم وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم ، فلما جاء دفعوه إليه ، فقال ما هذا ؟ قالوا قسمٌ قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا ؟ قال قسمته لك ، قال ما على هذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا ـ وأشار إلى حلقه ـ بسهم فأموت فأدخل الجنة ، فقال إن تصدق الله يصدقك ، فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو ، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أهو هو ؟ قالوا نعم ، قال صدق الله فصدقه ، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في (جبته) ... ثم قدمه فصلى عليه ، فكان فيما ظهر من صلاته : اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا أنا شهيد على ذلك } رواه النسائي .
ونتذكر أيضاً قصة أنس بن النضر رضي الله عنه الذي { لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فشق عليه وقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبت عنه ؟ لئن أراني الله تعالى مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله عز وجل ما أصنع ... فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه ، فقال له أنس رضي الله عنه : يا أبا عمرو أين ؟ واهاً لريح الجنة إني أجده دون أحد ، فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه ، فوجد في جسده بضعٌ وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية ، فقالت أخته الربيع ابنة النضر : فما عرفت أخي إلا ببنانه ، فنزلت هذه الآية (الأحزاب 23) { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } فكانوا (أي الصحابة) يروون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضي الله عنهم } رواه مسلم .
فالصدق مع الله من أجلّ وأشرف صور الصدق وأعظمها بل هو أساسها وعمودها وركنها ، ويكون ذلك بالتزام ما يرضيه عز وجل بأن يلتزم أوامره ويجتنب نواهيه ، وبأن يستغفر ويصدق في توبته وندمه على ما بدر من المعاصي والآثام صغيرها وكبيرها ومعاهدة ربه ألاَّ يعاود ارتكابها ، وبأن يبذل غاية جهده في سبيل الله ونصرة دينه مضحياً بالنفس والمال والكلمة .
ومن أبرز صور الصدق المطلوبة في المجتمع صدق وسائل الإعلام والتوجيه نظراً لانتشارها الواسع وتأثيرها العميق في المجتمع بصورة لا تقل عن تأثير البيت والمدرسة ، فإذا غيرت الحقائق ونشرت الأكاذيب تلاعبت بعقول الناس وأحاسيسهم ومشاعرهم وعرضتهم لأشد أنواع التضليل والخداع فتكون بذلك معول هدم للأوطان ، أما إذا اعتمدت الصدق وانتهجت الحقيقة فهي من أدوات بناء المجتمع والدولة ، لذا وجب على الحكومات أن تراقب أداء أجهزة الإعلام لديها ـ بعيداً عن القمع وتكميم الأفواه ـ فهي من مسؤوليتها أمام الله والناس والتاريخ .
ولعل أسوا صور الكذب شهادة الزور ، فقد دعانا ديننا الحنيف إلى تحري الصدق في الشهادة ولو على النفس ، فالكذب في الشهادة يضيع الحقوق ويشجع الظالمين والمعتدين والفاسقين على أموال الناس وأعراضهم ، ويسهم في حرف القضاء عن رسالته المقدسة في نشر العدالة وحماية الحقوق ، فما اشد إثم الذين يبيعون شهاداتهم بثمن بخس أو حرصاً على قرابة أو خوفاً من ذي سطوة ، لذا كانت شهادة الزور من الكبائر ، قال صلى الله عليه وسلم { ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا بلى يا رسول الله ، قال الشرك بالله ثم عقوق الوالدين ؛ وكان متكئا فجلس ثم قال : ألا وقول الزور ألا وقول الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت } رواه البخاري ، وقول الزور أعم وأشمل من شهادة الزور .

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت