التشابه سبب التناقض
لا شك ان اعطاء بيانات جامدة عن عدد جلسات الحوار واجتماعاته ومدة الزمنية ومستويات المشاركة فيه والتصريحات والمناكفات والنقاشات والمؤتمرات وورش العمل والفعاليات حول المصالحة يوحي بان هذه المصالحة تأتي على اثر حرب عالمية بين حضارتين متباينتين. ذلك مع افتراض وجود رغبة وقدرة حقيقية للتوصل للمصالحة، فالرغبة هاهنا عبارة عن وكيل Proxy للعوامل الذاتية والداخلية لكل حركة. واعتقد ان القدرة هي ممثلا للعوامل والمؤثرات الخارجية على كل حركة من الحركتين.
ولكن هل هذا الافتراض صحيح؟ هل هناك رغبة حقيقية لكل من فتح وحماس لانجاز المصالحة، ومن المؤكد ان نفي هذا الشق من الفرضية يرجع لسبب هيكلي في كلا التنظيمين وهو الطبيعة الهيكلية للإدارة او العقلية والتركيبة التنظيمية وهي عبارة عن مجموعة اسباب توضح اوجه التشابه وهي محفز ومحرك الانقسام في نفس الوقت.
- فكلا التنظيمين وبالتجربة يعشق الاستفراد بالسلطة فإما مشاركة شكلية او "ديكورية"، او لا مشاركة اصلا تحت ضغط الكوتة المناطقية والانغلاق التنظيمي. وما يرافق ذلك من اتساع رقعة الحصول على الامتيازات والمناصب وزيادة وزن التنظيم في البيروقراطية الحكومية.
- التوازنات الداخلية على مستوى المناطق بين غزة والضفة و الخارج والداخل والمؤسسات والأطر والشخصيات المختلفة التى اتسع مستوى نفوذها من كافة الجوانب نتيجة الانقسام وتسعى حتما للحفاظ عليه.
- فكلا التيارين –فيما يخص التعامل مع الاخر على الأقل- لا يتمتع بالديمقراطية او الديناميكية الفكرية داخله ويمارس الاضطهاد التنظيمي مع قواعده من خلال التحكم بقنوات المال والصلاحيات ويقمع حرية الرأي والتعبير والانتقاد خصوصا خارج اطار التنظيم أي امام الجماهير التي يفترض انه (التنظيم) في خدمتها. وينعكس ذلك بكل كفاءة على انعدام الشفافية في الافصاح عن حقيقة ما يدور في جولات التصالح وإطلاع شرائح المجتمع عليه والأسباب الحقيقية لدى كل طرف لعدم انجاز المصالحة.
- انعدام التأثير المجتمعي على قطبي الانقسام الفلسطيني لعدم وجود شرائح حقيقية غير تابعة من الاكاديميين والكتاب والمثقفين والصحفيين والوجهاء ومؤسسات المجتمع المدني او فصائل سياسية مؤثرة لا تدور في فلك أي من القطبين ولا تمارس النفاق السياسي. وإلا فهم عبارة عن موظفين وأبواق انعكاسية للمستوى القيادي وجلهم عين في مكانه على خلفية تنظيمية فمنهم من قبض الثمن ومنهم من ينتظر.
كما ان نفي الشق الاخر يرجع الى عدم شفافية الحركتين في الافصاح بطبيعة علاقتها بالقوى الخارجية ومستوى تأثيرها في الحالة الفلسطينية.
- تستطيع مثلا دول الثمان او الدول العظمى ان تؤثر او تتأثر تبادليا ببعضها البعض سياسيا واقتصاديا وهو ما تعرب عنه هذه الدول بصراحة، اما قطبي الانقسام الفلسطيني والتنظيمات الاخرى فتنكر ادنى تأثر بالخارج بأي شكل من الاشكال وفي أي جانب من الجوانب، وذلك مؤشر على التبعية التامة وهو ما يوضح تردي مستوى الشفافية في التعامل مع جماهير الشعب الفلسطيني. في حين ان الشارع الفلسطيني تجده تاريخيا على قناعة تامة بان بعض الشخصيات التنظيمية السياسية هم عبارة عن موظفين ممثلين لجهات خارجية ربما منها اسرائيل. فليس من غير الطبيعي ان يكون هناك تأثر (مراعاة للمصالح المشتركة) لبعض القوى الاقليمية كقطر وتركيا وإيران ولكن فيما يخدم مصالح شعبنا أيضا فكافة الدول بلا استثناء مهما بلغ شكل التزامها بالقضية الفلسطينية فلا بد وان تنظر الى المصالح الجانبية التى تحققها من زيادة نفوذها على الاطراف الفلسطينية، ابتداء بزيادة القوة الناعمة في المنطقة وانتهاء بالقدرة على خلق جبهة حرب اضافية ضد اسرائيل في المنطقة بناء على تحالف استراتيجي. وينطبق ذلك على العلاقة مع العالم المتمدن طالما ان الجميع يسعى لتجميل صورته على المستوى الدولي بل ان ذلك قد ينطبق على اسرائيل طالما ان فتح انخرطت بل والتزمت بل وتزمتت واعتقدت اعتقادا جازما "بالعملية السلمية". فالارتباط المصلحي مع قوى خارجية اقليمية ودولية مع تردي مستوى الشفافية والمحاسبة والمراجعة يوحي بالعجز عن الوصول الى مصالحة حقيقية متينة.
لقد ال شكل التنظيم النضالي الراقي الشريف الى حالة اشبه بجمعية تعاونية يقتات بها ابناءها لا تنظر في أي نوع من السياسات إلا لأجل المصلحة الذاتية للحزب مما انعكس ذلك ايضا على الاداء في ادارة الدولة.
كل هذه الدواعي التي تعزز استدامة الانقسام تثبت اننا فعلا من بوتقة واحدة فطريقة الشيخين (فتح وحماس) واحدة في الممارسة التنظيمية والأداء السلطوي والعقلية والإستقواء بالخارج وقهر القاعدة التنظيمية وقهر دوائر المصالح المرافقة لكل تنظيم مما يغذي الازمة القائمة.
فلا شك لدي ان الخلاف بين التيارين العظميين في فلسطين مؤسس على عدم الاختلاف (التماثل) بينهما وهو الذي يقود الى التنافر والتنازع والانقسام والحفاظ علية - فالتشابه اساس التناقض - فليست المشكلة فقط في ايجاد صيغة توافقية لإنهاء الانقسام بل ان تكون صيغة شراكة حقيقية تحافظ على ديمومتها.
مما لا شك فيه ان هناك تناقضا رئيسيا بينهما في استراتيجية حل الصراع مع العدو الصهيوني بل وتناقضا ايضا في الاطار الفكري الذي تنبثق عنه كل إستراتيجية إلا ان ذلك قد يكون دافعا اساسيا للتوافق والتكامل - فما تزرعه الصواريخ التي تتساقط على تل ابيب قد تحصده طاولة المفاوضات. وعلى الرغم اني لا افهم ولن افهم معنى وكيفية التنازل عن شبر من فلسطين ناهيك عن كارثة الاقرار بهذا الواقع المرير المسمى إسرائيل ولكن كيف تصنع بنصف شعب يقبل التنازل عن وطنه خصوصا ان اصر على ذلك في المستقبل وهو شكل من اشكال التشوه المجتمعي والفكري المصاحب للاحتلال، فلا بد من تقبل الاخر والتوافق ذاتيا حتى يستطيع هذا الشعب المضي قدما في هذا الصراع المصيري.
ففي ظل وجود عدو صعب المراس وبيئة عربية غير تكاملية بل متخاذلة ومتواطئة وانحياز عالمي غير مسبوق في التاريخ. فلا بد من حل جذري يضمن القدرة على التوافق او تبني استراتيجية مستدامة ودور تبادلي وتكاملي في مستقبل ادارة الصراع.
وعليه يتوجب حصر الفلسطينيون في كافة اماكن تواجدهم ومنهم من لا يثبت هويته الفلسطينية إلا بشق الانفس. فلا يوجد بديل عن الانتخابات بدورية والية معينة لضمان عدم الاستئثار بالمناصب وتجاوز حالة الهيئات والشخصيات والتنظيمات الهامشية التابعة كليا. وقد يستثنى من هذه الحالة فلسطينيو الداخل مع امكانية تمثيلهم الرمزي.
احياء البناء المؤسسي وتفعيل مهنية الاداء (الفصل التام بين الحالة التنظيمية والتركيبة البيروقراطية لمؤسسات الشعب الفلسطيني) من خلال تعزيز الشفافية والرقابة على الاداء في مؤسسات السلطة والمنظمة من اجل خلق حالة ديناميكية تعبر عن النبض الفلسطيني في تحديد الاهداف الاستراتيجية والسياسات التكتيكية. ان ذلك سيضمن انخراط التنظيمات والكتل الصغيرة والشخصيات المستقلة في الانتخابات وفي المؤسسات سواء على المستوى السياسي او المهني.
وبهذا تجرى انتخابات السلطة كجزء من الانتخاب العام ليقرر المنتخبون لاحقا بقاء السلطة من عدمه بعد استفتاء الشعب الفلسطيني على استراتيجية التحرر وعلاقتها بأي برنامج مرحلي محتمل.
د. محمود صبرة
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت